ما هو مستقبل اللغة العربية؟
إنّما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، أو ذاتها العامّة، فإذا هَجَعت قوّة الابتكار، توقَّفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف والتقهقر الموت والاندثار.
اذاً فمستقبل اللغة العربيّة يتوقّف على مستقبل الفكر المبدع الكائن – أو غير الكائن – في مجموع الأمم التي تتكلّم اللغة العربيّة.
فإنْ كان ذلك الفكر موجوداً، كان مستقبل اللغة عظيماً كماضيها، وإن كان غير موجود، فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتيها السريانيّة والعبرانيّة.
وما هذه القوّة التي ندعوها قوّة الابتكار ؟
هي، في الأُمّة، عزم دافع إلى الأمام، وهي، في قلبها، جوع وعطش وتوق إلى غير المعروف، وفي روحها، سلسلة أحلام تسعى إلى تحقيقها ليلاً ونهاراً، ولكنّها لا تحقّق حلقةً من أحد طرفيها إلا أضافت الحياة حلقة جديدة في الطرف الآخر.
هي، في الأفراد، النبوغ، وفي الجماعة، الحماسة، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على وضع ميول الجماعة الخفيّة في أشكال ظاهرة محسوسة.
ففي الجاهليّة كان الشاعر يتأهَّب لأن العرب كانوا في حالة التأهّب، وكان ينمو ويتمدّد أيّام المخضرمين لأنّ العرب كانوا في حالة النمو والتمدّد، وكان يتشعَّب أيّام المولَّدين، لأنّ الأُمة الإسلامية كانت في حالة التشعّب.
وظلّ الشاعر يتدرّج، ويتصاعد، ويتلّون فيظهر آناً كفيلسوف، وآونة كطبيب، وأخرى كفلكيّ، حتّى راود النعاس قوة الابتكار في اللغة العربّية، فنامت، وبنومها تحوَّل الشعراء إلى ناظمين، والفلاسفة إلى كلامِّيين، والأطبّاء إلى دجّالين، والفلكيّون إلى منجِّمين.
إذا صحّ ما تقدمَّ كان مستقبل اللغة العربيّة رهن قوة الابتكار في مجموع الأمم التي تتكلّمها، فإن كان لتلك الأمم ذات خاصة ( ووحدة معنويّة ) وكانت قوّة الابتكار، في تلك الذات، قد استيقظت بعد نومها الطويل، كان مستقبل اللغة العربيّة عظيماً كماضيها وإلاّ فَلا.
ما عسى أن يكون تأثير التمدّن الأوروبِّي والروح الغربيّة فيها؟
إنّما (التأثير) شكل من الطعام تتناوله اللغة من خارجها، فتمضغه، وتبتلعه، وتحوّل الصالح منه إلى كيانها الحيّ كما تحوِّل الشجرة النور، والهواء، وعناصر التراب، إلى أفنان، فأوراق، فأزهار، فأثمار.
ولكن إذا كانت اللغة بدون أضراس تقضم، ولا معدة تهضم، فالطعام يذهب سُدى، بل ينقلب سمّاً قاتلاً. وكم من شجرة تحتال على الحياة، وهي في الظلّ، فإذا ما نُقِلَت إلى نور الشمس، ذبلت، وماتت. وقد جاء: << مَنْ لَه يُعْطى، ويُزاد ومَنْ لَيْسَ لَه يؤخَذُ منه >>.
وأمّا الروح الغربيّة، فهي دَوْر من أدوار الإنسان، وفصل من فصول حياته. وحياة الإنسان موكب هائل يسير دائماً إلى الأمام، ومِن ذلك الغبار الذهبيّ المتصاعِد من جوانب طريقه تُكوَّن اللغات، والحكومات، والمذاهب، فالأمم التي تسير في مقدَّمة هذا الموكب هي المبتكرة، والمبتكر مؤثِّر، والأمم التي تمشي في مؤخّرته هي المقلِّدة، والمقلِّد يتأثر . فلما كان الشرقيّون سابقين، والغربيّون لاحقين، كان لمدنيَّتنا التأثير العظيم على لغاتهم. وها قد أصبحوا هم السابقين، وأمْسَيْنا نحن اللاحقين، فصارت مدنيَّتهم، بحكم الطبْع، ذات تأثير عظيم على لُغتَنا، وأفكارنا، وأخلاقنا.
بيد أنَّ الغربيِّين كانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه، فيمضغونه، ويبتلعونه محوِّلين الصالح منه إلى كيانهم الغربيّ. أما الشرقيّون، في الوقت الحاضر، فيتناولون ما يطبخه الغربيّون، ويبتلعونه، ولكنّه لا يتحوّل إلى كيانهم، بل يحوِّلهم إلى شبه غربيِّين، وهي حالة أخشاها، وأتَبرَّم منها، لأنَّها تُبيِّن لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه، وطوراً كطفل بدون أضراس!.
إنّ روح الغرب صديق وعدوّ لنا. صديق إذا تمكّنا منه، وعدوٌّ اذا تمكّن منّا، صديق إذا فتحنا له قلوبنا، وعدوّ إذا وهبناه قلوبنا، صديق إذا أخذنا منه ما يُوافقنا، وعدوّ إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه.
ما يكون تأثير التطوّر السياسّي الحاضر في الأقطار العربيّة؟
قد أجمع الكتّاب والمفكِّرون، في الغرب والشرق، على أنّ الأقطار العربيّة هي اليوم في حالة التشويش السياسيّ، والإداريّ، والنفسيّ. ولقد اتّفق اكثرهم على أنّ التشويش مَجْلبة الخراب والاضمحلال.
أما أنا فأسأل : - هل هو تشويش أم ملل؟
إن كان ملللاً، فالمللُ نهاية كلّ أمّة، وخاتمة كلّ شعب، الملل هو الاحتضار في صورة النعاس، والموت في شكل النوم.
وإن كان بالحقيقة تشويشاً، فالتشويش في شرعي ينفع دائماً لأنّه يبيِّن ما كان خافياً في روح الأمّة، ويبدّل نشوتها بالصحو، وغيبوبتها باليقظة، وهو نظير عاصفة تهزّ بعزمها الأشجار، لا لتقتلعها، بل لتكسر أغصانها اليابسة، وتُبعثر أوراقها الصفراء . وإذا ما ظهر التشويش في أمّة لم تزل على شيء من الفطرة، فهو أوضح دليل على وجود قوّة الابتكار في أفرادها، والاستعداد في مجموعها . إنّما السديم أوّل كلمة من كتاب الحياة، وليس بآخر كلمة منها، وما السديم إلا حياة مشوّشة.
إذاً فتأثير التطوّر الاجتماعيّ السياسيّ سيحوِّل ما في الأقطار العربيّة من التشويش إلى نظام، وما في داخلها من الغموض والإشكال إلى ترتيب وإلفة، ولكنّه لا ولن يبدِّل مللها بالوجد، وضجرها بالحماسة، إن الخزّاف يستطيع أنْ يصنع من الطين جرّة للخمر أو للخلّ، ولكنّه لا يقدر أن يصنع شيئاً من الرمل والحصى.
هل يعمُّ انتشار اللغة العربيّة في المدارس العالية وغير العالية وتُعلّم بها جميع العلوم؟
لا يعمّ انتشار اللغة في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنيّة مجرّدة، ولن تعلّم بها جميع العلوم حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيّات الخيريّة، واللجان الطائفيّة، والبعثات الدينيّة إلى أيدي الحكومات المحلّيّة .
ففي سوريا مثلاً كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصَّدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة لأنّنا جياع متضوِّرون، ولقد أحيانا ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا . أحيانا لأنّه أيقظ جميع مداركنا، ونبّه عقولنا قليلاً، وأماتنا لأنَّه فرّق كلمتنا وأضعف وحدتنا، وقطع روابطنا، وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق، متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشدّ في حبل الأمم الغربيّة، وترفع لواءها، وتترنّم بمحاسنها وأمجادها . فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أميركيّة، قد تحوّل إلى معتمّد أميركيّ، والشاب الذي تجرّع رشفةً من العلم في مدرسة يسوعيّة، صار سفيراً فرنسيّاً، والشاب الذي لبس قميصاً من نسيج مدرسة روسيّة أصبح ممثِّلاً لروسيا ... إلى آخر ما هناك من المدارس، وما تخِّرجه في كل يوم من الممثِّلين والمعتمدين والسفراء. وأعظم دليل على ما تقدّم اختلاف الآراء وتباين المنازع في الوقت الحاضر في مستقبل سوريّا السياسي. فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الإنجليزيّة يريدون أميركا وانكلترا وصيّة على بلادهم، والذين درسوها باللغة الإفرنسيّة يطلبون فرنسا أن تتولّى أمرهم، والذين لم يدرسوا بهذه اللغة أو بتلك لا يريدون هذه الدولة ولا تلك، بل يتبعون سياسة أدنى إلى معارفهم، وأقرب إلى مداركهم.
وقد يكون ميلنا السياسيّ إلى الأمّة التي نتعلّم على نفقتها دليلاً على عرفان الجميل في نفوس الشرقِّيين، ولكن ما هذه العاطفة التي تبني حجراً من جهة واحدة وتهدم جداراً من الأخرى؟ ما هذه العاطفة التي تستنبت زهرة وتقتلع غابة ؟ ما هذه العاطفة التي تُحيينا يوماً وتُميتنا دهراً ؟.
إنَّ المحسنين الحقيقّيين، وأصحاب الأريحيّة في الغرب لم يضعوا الشوك والحسك في الخبز الذي بعثوا به إلينا، فهم بالطبع قد حاولوا نفعنا لا الضرر بنا. ولكن كيف تَولَّد ذلك الشوك، ومن أين أتى ذلك الحسك ؟ هذا بحث آخر أتركه إلى فرصة أخرى؟.
نعم سوف يعمُّ اللغة العربيّة في المدارس العالية وغير العالية، وتُعلَّم بها جميع العلوم، فتتوحَّد ميولنا السياسيّة، وتتبلور منازعنا القوميّة، لأنّ في المدرسة تتوحَّد الميول، وفي المدرسة تتجوهر المنازع، ولكن لا يتمّ هذا حتى يصير بإمكاننا تعليم الناشئة على نفقة الأمّة. لا يتمّ هذا حتى يصير الواحد منا ابناً لوطنٍ واحد بدلاً من وطنين متناقضين أحدهما لجسده والآخر لروحه. لا يتمّ هذا حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا، لأنّ المتسوِّل المحتاج لا يستطيع أن يشترط على المتصدِّق الأريحيّ. ومن يضع نفسه في منزلة الموهوب لا يستطيع معارضة الواهب، فالموهوب مسيَّر دائماً، والواهب مخيَّر أبداً.
هل تتغلب اللغة ( العربية الفصحى ) على اللهجات العامِّية المختلفة وتُوحِّدها؟
إنّ اللهجات العامِّيّة تتعدَّل، وتتهذَّب، ويُدلك الخشن فيها فيلين، ولكنّها لا ولن تُغلب – ويجب ألاّ تُغلب – لأنّها مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام، ومنبت ما نعدّه بليغاً من البيان.
إنَّ اللغات تتبع، مثل كلّ شيء آخر، سُنَّة بقاء الأنسب، وفي اللهجات العامِّيّة الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنّه أقرب إلى فكرة الأمّة، وأدنى إلى مرامي ذاتها العامّة: قلت إنَّه سيبقى، وأعني بذلك أنَّه سيلتحم بجسم اللغة، ويصير من مجموعها.
لكل لغة من لغات الغرب لهجات عامِّيّة، ولتلك اللهجات مظاهر أدبيّة وفنِّية لا تخلو من الجميل المرغوب، والجديد المبتكر، بل في أوروبا وأميركا طائفة من الشعراء الموهوبين الذين تمكَّنوا من التوفيق بين العامِّي والفصيح في قصائدهم وموشَّحاتهم فجاءت بليغة ومؤثِّرة. وعندي أنَّ في الموالي، والزجل، والعتابا، والمعنّى من الكنايات المستَجَدَّة، والاستعارات المستملَحة، والتعابير الرشيقة المستنبَطة، ما لو وضعناه بجانب تلك القصائد المنظومة بلغة فصيحة، والتي تملأ جرائدَنا ومجلاّتنا، لبانت كباقة من الرياحين بقرب رابية من الحطب، أو كسرب من الراقصات المترنِّمات قبالة مجموعة من الجثث المحنطة.
لقد كانت اللغة الإيطاليّة الحديثة لهجة عامِّيّة في القرون الوسطى، وكان الخاصّة يدعونها بلغة الهمج، ولكن لما نظم دانتي، وبتراك، وفرنسيس داسيزي قصائدهم وموشَّحاتهم الخالدة اصبحت تلك اللهجة لغة إيطاليا الفصحى، وصارت اللاتينيّة بعد ذلك هيكلاً يسير، ولكن في نعشٍ على أكتاف الرجعِّيين ... وليست اللهجات العامِّيّة في مصر، وسوريا، والعراق أبعد من عن لغة المعرّي، والمتنبي من لهجة الهمج الإيطاليّة عن لغة أوقيدي، وقرجيل. فإذا ما ظهر في الشرق الأدنى عظيمٌ، ووَضع كتاباً عظيماً في إحدى تلك اللهجات، تحوَّلت هذه إلى لغة فصحى. بَيْد أنِّي أستبعد حدوث ذلك في الأقطار العربيّة، لأنّ الشرقّيين أشد ميلاً إلى الماضي منهم إلى الحاضر أو المستقبل، فهم المحافظون، على معرفة منهم، أو على غير معرفة، فإن قام كبيرٌ بينهم، لَزِم، في إظهار مواهبه، السُبُلَ البيانيّة التي سار عليها الأقدمون، وما سُبُل الأقدمين سوى أقصر الطرقات بين مهد الفكر ولحده.
ما هي خير الوسائل لإحياء اللغة العربيّة ؟
إن خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي قلب الشاعر، وعلى شفتيه، وبين أصابعه، فالشاعر هو الوسيط بين قوّة الابتكار والبشر، وهو السلك الذي ينقل ما يُحدثه عالم النفس إلى عالم البحث، وما يقرِّره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين.
الشاعر أبو اللغة وأمّها، تسير حيثما يسير، وتربض أينما يربض، وإذا ما قضى، جلستْ على قبره باكية منتحبة، حتّى يمرَّ بها شاعر آخر، ويأخذ بيدها. وإذا كان الشاعر أبا اللغة وأمَّها، فالمقلِّد ناسج كفنها، وحفَّار قبرها.
أعني بالشاعر كلّ مخترع كبيراً كان أو صغيراً، وكل مكتشف قوّياً كان أو ضعيفاً، وكل مختلقٍ عظيماً كان أو حقيراً، وكل محبٍ للحياة المجرّدة إماماً كان أو صعلوكاً، وكل من يقف متهيِّباً أمام الأيام والليالي فيلسوفاً كان أو ناطوراً للكروم.
أمّا المقلِّد، فهو الذي لا يكتشف شيئاً، ولا يختلق أمراً بل يَستمدّ حياته النفسيّة من معاصريه، ويصنع أثوابه المعنويّة من رُقَع يَجُزّها من أثواب مَنْ تقدَّمه.
أعني بالشاعر ذلك الزارع الذي يفلح حقله بمحراث، يختلف، ولو قليلاً، عن المحراث الذي ورثه عن أبيه، فيجيء بعده من يدعو المحراث الجديد باسم جديد، وذلك البستانّي الذي يستنبت بين الزهرة الصفراء، والزهرة الحمراء، زهرة ثالثة برتقاليّة اللون، فيأتي بعده من يدعو الزهرة الجديدة باسم جديد ! وذلك الحائك الذي ينسج على نوله نسيجاً ذا رسوم وخطوط، تختلف عن الأقمشة التي يصنعها جيرانه الحائكون، فيقوم من يدعو نسيجه هذا باسم جديد.
أعني بالشاعر، الملاَّح الذي يرفع لسفينةٍ ذات شراعين شراعاً ثالثاً، والبنَّاء الذي يبني بيتاً ذا بابين ونافذتين بين بيوت كلّها ذات باب واحد، ونافذة واحدة، والصبَّاغ الذي يمزج الألوان التي لم يمزجها أحد قبله، فيستخرج لوناً جديداً، فيأتي بعد الملاَّح، والبنَّاء، والصبَّاغ من يدعو ثمار أعمالهم بأسماء جديدة، فُيضيف بذلك شراعاً إلى سفينة اللغة، ونافذةً إلى بيت اللغة، وثوباً إلى ثوب اللغة.
أمّا المقلِّد، فهو ذاك الذي يسير من مكان إلى مكان على الطريق التي سار عليها ألف قافلة وقافلة، ولا يحيد عنها مخافة أن يتيه ويضيع، ذاك الذي يتبع بمعيشته، وكسب رزقه، ومأكله، ومشربه، وملبسه تلك السبل المطروقة التي مشى عليها ألف جيل وجيل، فتظل حياته كرجع الصدى، ويبقى كيانه كظل ضئيل لحقيقة قصيّة، لا يعرف عنها شيئاً، ولا يريد أن يعرف.
أعني بالشاعر ذلك المتعبِّد الذي يدخل هيكل نفسه، فيجثو باكياً فرحا ًنادباً مهلِّلاً مُصغياً مناجياً، ثمّ يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء وأفعالٌ وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبادته التي تتجدّد في كل يوم، وأنواع انجذابه التي تتغيّر في كل ليلة، فيضيف، بعمله هذا، وتراً فضيّاً إلى قيثارة اللغة، وعوداً طيبّاً إلى موقدها.
أمّا المقلِّد، فهو الذي يردِّد صلاة المصلِّين، وابتهال المبتهلين بدون إرادة، ولا عاطفة، فيترك اللغة حيث يجدها، والبيان الشخصي حيث لا بيان ولا شخصيّة.
أعني بالشاعر ذاك الذي، إن أحبَّ امرأة، انفردت روحه، وتنحَّت عن سُبُل البشر لتلبَس أحلامها أجسادا من بهجة النهار، وهول الليل، وَوَلْولة العواصف، وسكينة الأودية، ثم عادت لتضفر من اختباراتها إكليلاً لرأس اللغة، وتصوغ من اقتناعها قلادة لعنق اللغة.
أمّا المقلِّد، فمقلِّد حتَّى في حبِّه، وغزَله، وتشبيبه، فإن ذَكَر وجه حبيبته، وعنقها، قال : بدر وغزال وإن خطر على باله شعرها وقدُّها ولحظها، قال :ليلٌ، وغصن بانٍ، وسِهام وإن شكا، قال : جَفنٌ ساهرٌ، وفجرٌ بعيد، وعذولٌ قريب وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانيّة، قال : حبيبتي تَسْتَمْطِر لؤلؤ الدمع من نرجسِ العيونِ لتسقي وردَ الخدود، وتعضَّ على عنّاب شفتها، ببرد أسنانها . يشير جبران هنا إلى بيت الوليد بن يزيد:
وَاسْتَمْطَرَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ، وَسَقَتْ وَرْداً، وَعَضَّتْ على العِنَّابِ باِلْبَرَدِ
قد تكلَّمت عن المستنبط ونفعه ، والعقيمَ وضرره ، ولم أذكر أولئك الذين يصَرفون حياتهم بوضع القواميس، وتصنيف المطوَّلات، وتأليف المجامع اللغوّية – لم أقلْ كلمة في هؤلاء لاعتقادي أنهم كالشاطئ بين مَدِّ اللغة وَجَزْرِهَا، وأنّ وظيفتهم لا تتعدّى حدَّ الغربلة – والغربلة وظيفة حسنة – ولكن ما عسى أن يُغربلَ المعربِلون، إذا كانت قوّة الابتكار في الأمّة لا تزرع غير الزّوان، ولا تحصد إلا الهشيم، ولا تجمع على بيادرها سوى الشوك والقطرب ؟
أقول ثانية إنّ حياة اللغة، وتوحيدها، وتعميمها، وكل ما له علاقة بها قد كان وسيكون رهن خيال الشاعر. فهل عندنا شعراء؟
نعم عندنا شعراء، وكل شرقيّ يستطيع أن يكون شاعراً في حقله، وفي بستانه، وأمام نوله، وفي معبده، وفوق منبره، وبجانب مكتبته.
كل شرقيّ يستطيع أن يَعتق نفسه من سجن التقليد والتقاليد، ويخرج إلى نور الشمس، فيسير في موكب الحياة . كل شرقيّ يستطيع أن يستستلم إلى قوّة الابتكار المختبئة في روحه – تلك القوّة الأزليّة الأبديّة التي تُقيم من الحجارة أبناءً لله.
أمّا أولئك المنصرفون إلى نظم مواهبهم ونثرها، فَلَهم أقول : لِيَكُنْ لكم من مقاصدكم الخصوصيّة مانعاً عن اقتفاء أثر المتقدِّمين، فخيرٌ لكم وللغة العربيّة انْ تبنوا كوخاً حقيراً من ذاتكم الوضيعة من أن تُقيموا صرحاً شاهقاً من ذاتكم المقتبسة. ليكنْ لكُمْ من عزَّة نفوسكم زاجراً عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة، فخيرٌ لكم وللغة العربيّة أن تموتوا مهمَلين محتَقَرين من أن تُحرِقوا قلوبكم بخوراً أمام الأنصاب والأصنام .
ليكن لكم من حماستكم القوميّة دافعاً إلى تصوير الحياة الشرقيّة بما فيها من غرائب الألم وعجائب الفرح، فخير لكم وللغة العربيّة أن تتناولوا أبسط ما يتمثَّل لكم من الحوادث في محيطكم وتلبِسوه حلّة من خيالكم من أن تُعرِّبوا أجلَّ وأجمل ما كتَبه الغربيّون.
المصدر: المدرسة العربية