صوت هدوء يخنقها، ولا يكاد يبين، يتحشرج في حلقها كقطعة قطن، يسدّ ما بينها وبينهم، وجوههم ترمقها بتحسر، عيونهم تستصرخ ما بداخلها، أيديهم تربت على يديها.....ويتركونها لتسير دربا بمفردها.
 حفيف يرتد في أذني ولا أكاد أسمع، أظن أنها تنطق، وتبتلعها الحروف دون وعي منها بذلك، تغصّ في جوفها، تتلعثم...يتصبّب عرقها، تستنجد، ثم تحمّر وجنتاها، وتذبل أنفاسها، وتهدأ من جديد.
 في ركن بعيد كانت تجلس ، تحدّق بي وتنتظر أن أقول لها كالعادة عندما أقرأ أسماء الطلبة :
- هدوء أين صوتك يا هدوء؟؟ قولي نعم بصوت عالٍ.
 تتجاهلني بنظرات حاذقة، وتهمس بسرها دون أن أسمع شيئا، وتمضي المحاضرة كلها دون أن تنبس ببنت شفة، ربما كانت مزاجية الهوى أو غريبة الأطوار أو تكره التاريخ...لا أدري لكنها من أغرب من درّست.
 كنت أتمنى أن أسمع صوتها بأية وسيلة كانت، شعرت أنها تحادث زميلاتها، وتخرج كلاما دون حشرجة، فعرفت حينها أنها ليست صماء.
كتبت إعلانا، وعلقته على باب مكتبي يقول:
"أبحث عن صوت هدوء ولمن يجده عشر درجات"
 كنت متأكدة أنها ستنطق وقتها، بيد أنها لم تفعل، لم تأتِ هدوء، ولم يستطع أحد أن يأتي بها. انتهى الفصل ، ولم أسمع صوتا لهدوء، بت أحلم أحلاما مزعجة ، كابوس يأتيني كل يوم، يطاردني، يبحلق في وجهي ...أصرخ وأصرخ.. فأصحو والعرق يتصبب مني لاهثة.
 وجهها عملاق ضخم ، يملأ زوايا المكان، يبتلع الجدران، ويبصق أوراقا من كتبي، أوراق أراها وأعرفها جيدا ولا أستطيع قراءتها، تتطاير الأوراق وتلتصق بسقف الغرفة، فأجد نفسي وجها لوجه أمام الحائط، وكأن يدا خفية سحبتني، وجعلت صفحات التاريخ كلها في متناول يدي، وعندما أدقق النظر فيها لعلي أعرف ما بها ...لعلي أستكشف سرّها ....تتبخر بلمح البصر وتقطر مطرا على سريري، يبلل جسدي الذي ألقي به دفعة واحدة إلى الأرض.
 أنظر إلى فمها فأجدها كمن أصيب بتخمة منقطعة النظير، تفتحه ببطء شديد كتمساح مثقل يحمل أسرار البحار، أخشاه ويقصدني.....
أركض....ألهث...ينقطع صوتي....فأصحو.
 بت أخشى النوم، أخشى التاريخ، أخشى هدوء...لن يعقل أن أبقى بهذه الحال، أستاذة التاريخ أنا أخاف من حلم !!!.... أخاف من هدوء لا صوت فيه...!!!
 قررت أن أواجهها، سأبحث عنها، سأقول لها بأنني لا أخافها، سأواجه فمها وأنهي هذه المسألة حال رؤيتها!!!!! سخافة...أيما سخافة...ماذا سأقول لها؟ وكيف ستراني بخوف أفلاطوني يقفز من عيني، لا لن أراها سأبحث عن حل آخر، سأقاوم صخبا في أوراقها المبعثرة على سقفي، سأتحدى نعم... ولكن ليس هدوء بل تاريخي .
 دخلت غرفة المكتب، لم أعتد ترتيب أوراقي...كتبي...رسائلي...ولا حتى كتاباتي..كل شيء مكدّس على رقعة خشبية صغيرة لا تقوى على الاحتمال، جلست متخلصة من بقايا أنفاس في صدري بزفير طويل، مددت يدي إلى طاولة المكتب معلنة بداية الحرب أقصد عملية البحث، دقّقت النظر في كومة أمامي، وأخرى بجانبها، حاولت أن أستذكر الأحلام السابقة أقصد الكوابيس، لون الأوراق...حجم الخط....الحروف..... النقاط...كل ما يجعلني أجد بداية المواجهة....ولكن دون جدوى.
 لن تهزمي تاريخي يا هدوء...أستاذة التاريخ تهزم من طالبة لا صوت لها..!! إنه هراء، سأبدأ..سأفتش التاريخ ..سأفكك الطلاسم..سأرى من ينتصر أنا أم أنت... أعتقد أنها فرصة مناسبة لترتيب أوراقي من جديد، منذ زمن لم أستمتع بصوت تمزيق الأوراق...
- غريبة أنت يا صديقتي أتستمتعين بإراقة دم الأوراق؟؟
 أتذكر الآن ما دار بيني وبين انتصار صديقة الدراسة القديمة، لمَ لم أعد أمارس هوايتي، لمَ تكدست الأوراق والملفات والكتب الصفراء هنا في مكتبي، أتتغير الهوايات بمرور الزمن أم أنني لم أجد ما يستحق الإتلاف؟؟
 كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام هنا في أسفل كومتي، لكن عيني التقطته سريعا، ثم بدأت بالصعود معه... تاريخ الخلفاء الراشدين....أموي.. عباسي... فاطمي.... مملوكي....تاريخ الأندلس...وهنا أسفل الكتاب مسرحية غروب غرناطة، أذكر أن انتصار أهدتني إياها في عيد ميلادي الثلاثين قبل ثلاث سنوات!! فعلا إنني فوضوية كما كانت دائما تقول عني، سألتها يومها لماذا هذه المسرحية دون غيرها؟ فأجابت بابتسام : كي لا تهزمك الثلاثين ...كي يبدأ الإشراق لا الغروب... قلت لها مرارا إني لا أحب الفلسفة.
 وهذه مسرحية كتبتها يوما ، كنت أبحث عنها من أجل مسابقة المسرح في منتدى الأدب العربي، ليتني وجدتها حينها، يبدو أن التهام هذا الكتاب لها منعها من الظهور، لا فائدة للملامة الآن... المسابقة انتهت، وأعلنت النتائج وما أضحكني أن فرع المسرحية حجب نظرا لعدم وجود مشتركين.
 أوراق كثيرة تحجب متابعة عناوين الكتب، عليّ الآن إذن أن أبدأ بموسيقاي المفضلة، أرباع سقطت...أثلاث ...أخماس....فرش أرض المكتب ببياض وحروف تتقطع، حاصرتني الأوراق، لم تخفني أبدا، ارتمت جثة هامدة لا حياة فيها، أخرجت زفيرا أطول من سابقه هذه المرة.
 شعرت بسعادة لم أتذوقها منذ زمن، ابتسمت .....تابعت العملية...علت ضحكاتي ....انتشيت...طربت ...غنيت...امتدت يدي إلى الكومة الأخرى، اتخذت قرارا حاسما بعدم القراءة والفرز, لم يعد شيء يستحق التأني، لم أعد مهتمة بالعناوين كذي قبل، سأبدأ المعركة ...سأقاتل يا انتصار بلا مسرحية أو قلم، سأرمي جثثي ضحايا أمامي بقبضة يد واحدة ....لن يفلتوا مني ...أنا البطلة الوحيدة هنا لا أحد غيري، سأهزمك يا هدوء..أستاذة التاريخ أنا فمن سيهزمني؟؟؟
 ربما مرت ساعات لا أدري، بل كل ما أعيه أني انتصرت، كنت الحاكم والقاتل في الوقت نفسه، كنت أميرة أسير على عرش من ورق، أوراق صفراء هنا من تاريخ قديم، وأخرى ملونة لا فائدة منها الآن، وقصاصات لمحاولات كتابة فاشلة.
 في تلك الليلة نمت نوما طويلا، لا أحلام به ولا تمساح، لا أوراق به ولا هدوء.قرأ
 وفي فصل آخر رأيت وجوها جديدة ، تفحصتها بتأنٍ، حاورتها بتدبر، ربما لم تعلُ الأصوات كما أريد، بيد أني حمدت الله أن لا هدوء.
 

المراجع

رابطة أدباء الشام

التصانيف

ادب  قصص