غزوة أُحـد
غزوة أحد وقعت في يوم السبت، السابع من شوال في السنة الثالثة للهجرة والتي تصادف 23 مارس 625 م، بين المسلمين في يثرب بقيادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأهل مكة وأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.
كانت قوة المسلمين تقدر بحوالي 700 مقاتل وقوة أهل مكة وأتباعها تقدر بحوالي 3000 مقاتل من قريش والحلفاء الآخرين. وكان في الجيش 3000 بعير و200 فرس و 700 درع وكانت القيادة العامة في يد أبي سفيان بن حرب وعهدت قيادة الفرسان لخالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل.
تمكن جيش أبي سفيان من تحقيق نصر عسكري بواسطة هجمة مرتدة سريعة بعد نصر أولي مؤقت للمسلمين الذين انشغل البعض منهم بجمع الغنائم وترك مواقعهم الدفاعية التي تم التخطيط لها قبل المعركة وتمكن بعض أفراد جيش أبي سفيان من الوصول إلى الرسول محمد و إصابته وشج أحدهم (وهو عبد الله بن شهاب) جبهته الشريفة واستطاع ابن قمئة الحارثي من إصابة انفه الشريف. يعتقد المؤرخون أن من الأسباب الرئيسية للهزيمة العسكرية للمسلمين هو مغادرة المواقع الدفاعية من قبل 40 راميا من أصل 50 تم وضعهم على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي مناة، وهو ما يعرف اليوم بجبل الرماة والإشاعة عن مقتل النبي محمد أو صرخة الشيطان التي كان مفادها «ألا إن محمدا قد قتل».
جاء في البداية والنهاية” لابن كثير عن غزوة أُحد قوله:
“ائدة ذكرها المؤلف في تسمية أحد، قال: سمي أحد أحداً لتوحده من بين تلك الجبال.
وفي الصحيح: ((أحد جبل يحبنا ونحبه)).
قيل: معناه أهله.
وقيل: لأنه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره، كما يفعل المحب.
وقيل: على ظاهره كقوله: {وإن منها لما يهبط من خشية الله}.
وفي الحديث عن أبي عبس بن جبر: ((أحد يحبنا ونحبه وهو على باب الجنة، وعير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبواب النار)).
قال السهيلي: مقوياً لهذا الحديث، وقد ثبت أنه عليه السلام قال: ((المرء مع من أحب)) وهذا من غريب صنع السهيلي، فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس، ولا يسمى الجبل امرءاً.
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث، قاله الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، ومالك.
قال ابن إسحاق: للنصف من شوال.
وقال قتادة: يوم السبت الحادي عشر منه.
قال مالك: وكانت الوقعة في أول النهار، وهي على المشهور التي أنزل الله فيها قوله تعالى:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} الآيات [آل عمران: 121-125] وما بعدها إلى قوله:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] وقد تكلمنا على تفاصيل ذلك كله في كتاب التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة.
ولنذكر ههنا ملخص الوقعة مما ساقه محمد بن إسحاق وغيره من علماء هذا الشأن رح: وكان من حديث أُحُد كما حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم، من علمائنا كلهم، قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت.
قالوا أو من قال منهم: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلَّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش، ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له تلك العير من قريش تجارة.
فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأراً، ففعلوا.
قال ابن إسحاق: ففيهم كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]
قالوا: فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها، ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان فقيراً ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى.
فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك واخرج معنا.
فقال: إن محمداً قد منَّ علي، فلا أريد أن أظاهر عليه.
قال: بلى فأعنا بنفسك فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر.
فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بني كنانة ويقول:
أيا بني عبد مناة الرزام * أنتم حماة وأبوكم حام
لا يعدوني نصركم بعد العام * لا تسلموني لا يحل إسلام
قال: وخرج نافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم، ويقول:
يا مال مال الحسب المقدم * أنشد ذا القربى وذا التذمم
من كان ذا رحم ومن لم يرحم * الحلف وسط البلد المحرم
عند حطيم الكعبة المعظم *
قال: ودعا جبير بن مطعم غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
قال: فخرجت قريش بحدها، وحديدها، وجدها، وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وخرج أبو سفيان صخر بن حرب، وهو قائد الناس ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة، وخرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة.
وخرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج وهي أم ابنه عبد الله بن عمرو، وذكر غيرهم ممن خرج بامرأته.
قال: وكان وحشي كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول: ويهاً أبا دسمة اشف واشتفِ. يعني تحرضه على قتل حمزة بن عبد المطلب.
قال: فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي، مقابل المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال لهم: ((قد رأيت والله خيراً رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة)).
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفاً فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضاً بقراً والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي أتانا بعد يوم بدر)).
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الأصم، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر.
قال ابن عباس: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه المشركون، يوم أحد كان رأيه أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدراً:
نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله أقم فالرأي رأيك.
فقال لهم: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه.
قال: وكان قال لهم يومئذ قبل أن يلبس الأداة: ((إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشاً وأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقراً يذبح فبقر والله خير)).
رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به.
وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس مرفوعاً قال: ((رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشاً وكأن ضبة سيفي انكسرت، فأولت أني أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي)) فقتل حمزة، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة وكان صاحب اللواء.
وقال موسى بن عقبة رح: ورجعت قريش فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب، وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر، حتى طلعوا من بئر الحماوين، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبلي أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدراً قد ندموا على ما فاتهم من السابقة، وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما إبلى إخوانهم يوم بدر.
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد، فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدراً بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله علينا أمنيتنا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم:
((رأيت البارحة في منامي بقراً تذبح والله خير، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ضبته، أو قال: به فلول فكرهته، وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشاً)) فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه قالوا: يا رسول الله ماذا أولت رؤياك ؟
قال: ((أولت البقر الذي رأيت بقراً فينا، وفي القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي)).
ويقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وقصموا رباعيته، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ.
وقال: ((أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الأطام، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم)).
ورموا من فوق البيوت، وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن، فقال الذين لم يشهدوا بدراً: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير.
وقال رجل من الأنصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا؟
وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم تمنع الحرب بروع؟
وقال رجال قولاً صدقوا به، ومضوا عليه منهم: حمزة بن عبد المطلب قال: والذي أنزل عليك الكتاب لنجادلنهم.
وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة – وهو أحد بني سالم -: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بم ؟)).
قال: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدقت)) واستشهد يومئذ.
وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، وعظ الناس وذكَّرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا بلأمته فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج.
فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة، وهو أعلم بالله وما يريد، ويأتيه الوحي من السماء.
فقالوا: يا رسول الله أمكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب، وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فسلكوا على البدائع وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمائة، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
قال البيهقي رح: هذا هو المشهور عند أهل المغازي أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل.
قال: والمشهور عن الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل، كذلك رواه يعقوب بن سفيان عن أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري.
وقيل عنه بهذا الإسناد سبعمائة، فالله أعلم.
قال موسى بن عقبة: وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، وكان معهم مائة فرس، وكان لواؤه مع عثمان بن طلحة، قال: ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة، ثم ذكر الوقعة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
وقال محمد ابن إسحاق: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن لا يخرج إليهم.
فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو، فصلى عليه، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد، فقال: ((ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)) فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس؟
فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله فقال: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، عند ما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].
يعني: إنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه، وهم الذين أنزل الله فيهم: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا...} الآية [النساء: 88]
وذلك أن طائفة قالت: نقاتلهم، وقال آخرون: لا نقاتلهم، كما ثبت وبين في الصحيح.
وذكر الزهري: أن الأنصار استأذنوا حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال: ((لا حاجة لنا فيهم)).
وذكر عروة بن موسى بن عقبة أن بني سلمة وبني حارثة لما رجع عبد الله بن أبي وأصحابه همتا أن تفشلا، فثبتهما الله تعالى، ولهذا قال: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]
قال جابر بن عبد الله: ما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: {والله وليهما} كما ثبت في الصحيحين عنه.
قال ابن إسحاق: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب السيف: ((شم سيفك – أي: أغمده – فإني أرى السيوف ستسل اليوم)).
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((من رجل يخرج بنا على القوم من كثب – أي: من قريب – من طريق لا يمر بنا عليهم)).
فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة، وبين أموالهم حتى سلك به في مال لمربع بن قيظي، وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من التراب في يده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر))
وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وفي الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: ((لا يقاتلن أحد حتى أمره بالقتال)).
وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة كانت للمسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟
وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمر على الرماة يومئذ عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً فقال: ((انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك)).
وسيأتي شاهد هذا في الصحيحين إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، يعني لبس درعاً فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار.
قلت: وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الغلمان يوم أحد فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم، منهم: عبد الله بن عمر، كما ثبت في الصحيحين قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني.
وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس بن قيظي. ذكره ابن قتيبة، وأورده السهيلي وهو الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
ومنهم: ابن سعيد بن خيثمة، ذكره السهيلي أيضاً، وأجازهم كلهم يوم الخندق.
وكان قد رد يومئذ سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فقيل: يا رسول الله إن رافعاً رام فأجازه، فقيل: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعاً فأجازه.
قال ابن إسحاق رح: وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل بن هشام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأخذ هذا السيف بحقه)) فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يا رسول الله ؟
قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني.
قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه.
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعاً.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد وعفان قالا: حدثنا حماد هو ابن سلمة، أخبرنا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال: ((من يأخذ هذا السيف ؟))
فأخذ قوم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: ((من يأخذه بحقه)) فأحجم القوم فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين.
ورواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به.
قال ابن إسحاق: وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل.
قال: فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها، ثم جعل يتبختر بين الصفين.
قال: فحدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم – مولى عمر بن الخطاب – عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن))
قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه، فنكفيكموه فهموا به، وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان.
قال: فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضن على القتال، فقالت هند فيما تقول:
ويهاً بني عبد الدار * ويها حماة الأديار
ضرباً بكل بتار
وتقول أيضاً:
إن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة، وكان قد خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه خمسون غلاماً من الأوس، وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر.
وكان يعد قريشاً أن لو قد لقي قومه لم يتخلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش، وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس: أنا أبو عامر.
قالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق. وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالاً شديداً، ثم أرضخهم بالحجارة.
قال ابن إسحاق: فأقبل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس.
قال ابن هشام: وحدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع، فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول * أضرب بسيف الله والرسول
وقال الأموي: حدثني أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه وهو يقاتل به فقال: ((لعلك إن أعطيتك تقاتل في الكيول)) قال: لا، فأعطاه سيفاً فجعل يرتجز ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي * أن لا أقوم الدهر في الكيول
وهذا حديث يروى عن شعبة، ورواه إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق، عن هند بنت خالد أو غيره، يرفعه الكيول يعني مؤخر الصفوف، سمعته من عدة من أهل العلم، ولم أسمع هذا الخرف إلا في هذا الحديث.
قال ابن هشام: فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحاً إلا ذفف عليه، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضيت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. فقلت: الله ورسوله أعلم.
وقد رواه البيهقي في (الدلائل) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام بذلك”.
قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنساناً يحمس الناس حمساً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضه طلبه منه عمر، فأعرض عنه، ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه، فوجدا في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه، فأعطى السيف حقه.
قال: فزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين، قمت فتجاورت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة، يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم.
قال: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيأة.
قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه، وقال: كيف ترى يا كعب أنا أبو دجانة.
قال ابن إسحاق: وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، وكذلك قتل عثمان بن أبي طلحة وهو حامل اللواء، وهو يقول:
إن على أهل اللواء حقاً * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة فقتله، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختَّانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله فقال وحشي – غلام جبير بن مطعم -:
والله إني لأنظر لحمزة يهد الناس بسيفه، ما يليق شيئاً يمر به مثل الجمل الأورق، إذ قد تقدمني إليه سباع فقال حمزة: هلم يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغلب فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار أحد بني نوفل بن عبد مناف، في زمان معاوية، فأدربنا مع الناس، فلما مررنا بحمص، وكان وحشي مولى جبير قد سكنها، وأقام بها، فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدي: هل لك في أن نأتي وحشياً فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله ؟
قال: قلت له: إن شئت، فخرجنا نسأل عنه بحمص، فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه إنكما ستجدانه بفناء داره، وهو رجل قد غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحياً تجدا رجلاً عربياً، وتجدا عنده بعض ما تريدان، وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه، وإن تجداه وبه بعض ما به فانصرفا عنه ودعاه.
قال: فخرجنا نمشي حتى جئناه فإذا هو بفناء داره على طنفسة له، وإذا شيخ كبير مثل البغاث، وإذا هو صاح لا بأس به، فلما انتهينا إليه سلمنا عليه، فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال: ابن لعدي بن الخيار أنت ؟
قال: نعم.
قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك بعرضيك، فلمعت لي قدماك حتى رفعتك إليها، فوالله ما هو إلا أن وقفت علي فعرفتهما.
قال: فجلسنا إليه، فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة كيف قتلته؟
فقال: أما إني سأحدثكما كما حدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألني عن ذلك: كنت غلاماً لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد، قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق.
قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة قلَّ ما أخطئ بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة، وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هداً ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة، أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى.
فلما رآه حمزة قال: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق.
فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، هربت إلى الطائف فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعَّيت علي المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله لا يقتل أحداً من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق.
قال: فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يرعه إلا بي قائماً على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رآني قال لي: ((أوحشي أنت ؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة)) قال فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال: ((ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك))
قال: فكنت أتنكب برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله عز وجل.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس ورأيت مسيلمة قائماً وبيده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه.
وشد عليه الأنصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت شر الناس.
قلت: الأنصاري هو أبو دجانة سماك بن حرشة، كما سيأتي في مقتل أهل اليمامة.
وقال الواقدي في الردة: هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني.
وقال سيف بن عمرو: هو عدي بن سهل، وهو القائل:
ألم تر أني ووحشيهم * قتلت مسيلمة المغتبن
ويسألني الناس عن قتله * فقلت ضربت وهذا طعن
والمشهور: أن وحشياً هو الذي بدره بالضربة وذفف عليه أبو دجانة، لما روى ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال: سمعت صارخاً يوم اليمامة يقول قتله العبد الأسود.
وقد روى البخاري قصة مقتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبد الله بن عدي بن الخيار فذكر القصة كما تقدم.
وذكر أن عبيد الله بن عدي كان معتجراً عمامة لا يرى منه وحشي إلا عينيه ورجليه، فذكر من معرفته له ما تقدم. وهذه قيافة عظيمة كما عرف مجزز المدلجي أقدام زيد وابنه أسامة مع اختلاف ألوانهما.
وقال في سباقته: فلما أن صفَّ الناس للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال له: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب.
قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه. قال: فكان ذلك آخر العهد به، إلى أن قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرج إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة.
قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه، حتى خرجت من كتفيه. قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته.
قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت وا أمير المؤمناه قتله العبد الأسود.
قال ابن هشام: فبلغني أن وحشياً لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت بأن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.
قلت: وتوفي وحشي بن حرب أبو دسمة، ويقال: أبو حرب بحمص، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة.
قال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمداً.
قلت: وذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن سعيد بن المسيب أن الذي قتل مصعباً هو أبي بن خلف، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان اللواء أولاً مع علي بن أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء المشركين مع عبد الدار قال: نحن أحق بالوفاء منهم، أخذ اللواء من علي بن أبي طالب، فدفعه إلى مصعب بن عمير، فلما قتل مصعب أعطى اللواء علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين.
قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدّم الراية، فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟
قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه.
فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر ابن أبي أرطأة، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه.
كذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين، أبدى عن عورته، فرجع علي أيضاً. ففي ذلك يقول الحارث بن النضر:
أفي كلِّ يومٍ فارس غير منتهِ * وعورته وسط العجاجة باديه
يكف لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه
وذكر يونس عن ابن إسحاق: أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين يومئذ، دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس فبرز إليه الزبير بن العوام، فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل نبي حوارياً وحواريّ الزبير)).
وقال: لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه، لما رأيت من إحجام الناس عنه.
وقال ابن إسحاق: قتل أبا سعد بن أبي طلحة سعد بن أبي وقاص، وقاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقتل نافع بن أبي طلحة وأخاه الجلاس كلاهما يشعره سهماً، فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها فتقول: يا بني من أصابك؟
فيقول: سمعت رجلاً حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح، فنذرت أن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركاً أبداً، ولا يمسه، ولهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: والتقى حنظلة بن أبي عامر، واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو بن صيفي، وكان يقال لأبي عامر في الجاهلية: الراهب، لكثرة عبادته، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، لما خلف الحق وأهله، وهرب من المدينة هرباً من الإسلام ومخالفة للرسول عليه السلام.
وحنظلة الذي يعرف بحنطلة الغسيل – لأنه غسلته الملائكة كما سيأتي – هو وأبو سفيان صخر بن حرب، فلما علاه حنظلة رآه شدَّاد بن الأوس، وهو الذي يقال له ابن شعوب، فضربه شدَّاد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما شأنه)) فسُئلت صاحبته.
قال الواقدي: هي جميلة بنت أبي ابن سلول، وكانت عروساً عليه تلك الليلة. فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذلك غسلته الملائكة)).
وقد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره، وقال: ذنبان أصبتهما ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنتَ وصولاً للرحم، براً بالوالد.
قال ابن إسحاق: وقال ابن شعوب في ذلك:
لأحمينَّ صاحبي ونفسي * بطعنةٍ مثل شعاع الشمس
وقال ابن شعوب:
ولولا دفاعي يا ابن حرب ومشهدي * لألفيتَ يوم النعفِ غيرَ مجيب
ولولا مكري المهر بالنعف فرفرت * عليه ضباع أو ضراء كليب
وقال أبو سفيان:
ولو شئتُ نجتّني كُمَيتَ طمرة * ولم أحملِ النعماء لابن شعوب
وما زال مهري مزجَرَ الكلب منهم * لدن غدوةٍ حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعي يا لغالب * وأدفعهم عني بركن صليب
فبكِّي ولا ترعي مقالة عاذل * ولا تسأمي من عَبرة ونحيب
أباكِ وإخواناً له قد تتابعوا * وحقاً لهم من عَبرة بنصيب
وسَلي الذي قد كان في النفس أنني * قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرماً كريماً ومصعباً * وكان لدى الهيجاء غير هيوب
فلو أنني لم أشفِ نفسي منهم * لكانت شجى في القلب ذات ندوب
فأبوا وقد أوْدى الجلابيب منهمُ * بهم خدبٌ من مُغبطٍ وكئيب
أصابهمُ من لم يكن لدِمائهم * كفاء ولا في خطةٍ بضريب
فأجابه حسان بن ثابت:
ذكرت القروم الصِّيدَ من آل هاشم * ولست لزورٍ قلته بمصيبِ
أتعجبُ أن أقصدت حمزةَ منهم * نجيباً وقد سمَّيته بنجيب
ألم يقتلوا عَمراً وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب
غداة دعا العاصي علياً فراعَه * بضربةِ عَضْبٍ بَلّهُ بخضيب
وقال ابن الجوزي في “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ” :
” وكانت يوم السبت لسبع خلون من شوال وكان سببها أنه لما رجع من حضر بدرًا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان موقوفة في دار الندوة فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا: نحن طيبو الأنفس بأن تجهز بربح هذه العير جيشًا إلى محمد فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فباعوها فصارت ذهبًا وكانت ألف بعير وكان المال خمسين ألف دينار فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم وعزلت الأرباح وبعثوا الرسل إلى العرت يستنصرونهم وأجمعوا على إخراج الظعن معهم ليذكرنهم قتلى بدر فيحفظنهم فيكون أجد لهم في القتال.
وكتب العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت قريش ومعهم أبو عامر الراهب وكان عددهم ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومعهم مائتا فرس وثلاثة ألاف بعير وكانت الظعن خمسة عشرة امرأة فساروا حتى نزلوا ذا الحلمة فأقاموا يوم الأربعاء والخميس والجمعة وبات سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة من الناس وحرست المدينة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه في درع حصينة وكأن سيفه ذا الفقار قد انفصم وكأن بقرًا تذبح وكأنه مردف كبشا فأولها فقال: أما الدرع فالمدينة والبقر قتل في أصحابي وانفط سيفي مصيبة في نفسي والكبش كبش الكتيبة نقتله إن شاء الله وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من المدينة وكان ذلك رأي الأكابر من أصحابه وطلب فتيان أحداث لم يشهدوا بدرًا أن يخرجوا حرصًا على الشهادة فغلبوا على الأمر فصلى الجمعة ثم وعظمهم وأمرهم بالجد والجهاد ثم صلى العصر ثم دخل بيته ومعه أبو بكر وعمر فعمماه ولبساه وصف الناس له فخرج صلى الله عليه وسلم قد لبس لأمته وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم واعتم وتقلد السيف وألقى الترس في ظهره فندموا جميعًا على ما صنعوا وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك فقال: صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه فامضوا على اسم الله فلكم النصر إن صبرتم.
فعقد ثلاثة ألوية فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ولواء الخزرج إلى الحباب وقيل: إلى سعد بن عبادة ولواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقيل: إلى مصعب بن عمير واستخلف عبد الله بن أم مكتوم على المدينة ثم ركب صلى الله عليه وسلم فرسه وتقلد قوسه وأخذ قناة في يده وفي المسلمين مائة دارع وخرج السعدان أمامة: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة والناس على يمينه وشماله وعرض من عرض ورد من رد وكان فيمن رد: ابن عمر وزيد بن ثابت وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وعرابة بن أوس وهو الذي قال رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين وأذن بلال المغرب فصلى بأصحابه واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلًا يطوفون بالعسكر.
وبات بالشيخين اطمأن في طرق المدينة وكان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما فسميا بالشيخين لذلك وأدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر فصلى بأصحابه الصبح وانخزل ابن أبي في ثلاثمائة وكان رأيه أن لا يخرج من المدينة فقال: عصاتي وأطاع الولدان فبقي رسول الله في سبعمائة وأقبل يسوي الصفوف وجعل أحدًا وراء ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين – جبلا بقناة – عن يساره وجعل عليه خمسين من الرماة عليهم ابن جبير واستعمل المشركون على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل وعلى الخيل صفوان بن أمية وقيل عمرو بن العاص وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة وكانوا مائة رام وقال أبو سفيان بن حرب لبني عبد الدار يومئذ: إنكم أضعتم اللواء يوم بدر فأصابنا ما رأيتم فادفعوا إلينا اللواء نكفيكم وإنما أراد تحريضهم على الثبات فغضبوا وأغلظوا له القول ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة وحضرت الملائكة ولم تقاتل وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفًا وقال: ” من يأخذ هذا السيف بحقه ” قال أبو دجانة: وما حقه قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني قال: أنا فأخذه وجعل يتبختر في الصفين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن ”.
وكان أول من أنشب الحرب أبو عامر الراهب طلع في خمسين من قومه فنادى: أنا أبو عامر فقال المسلمون: لا مرحبًا بك فتراموا بالحجارة حتى ولى أبو عامر وجعل نساء المشركين يضربن بالدفوف والأكبار ويحرضن ويقلن: نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق فصاح طلحة من يبارز فبرز إليه علي بن أبي طالب فضربه على رأسه حتى فلق هامته – وهو كبش الكتيبة – فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون ثم شدوا على المشركين وحمل لواءهم أخوه عثمان بن أبي طلحة فضربه حمزة بالسيف فقطع يده ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فقتله فحمله مسافع بن طلحة فرماه عاصم فقتله ثم حمله الحارث بن طلحة فرماه عاصم فقتله ثم حمله كلاب بن طلحة فقتله الزبير ثم حمله الجلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله علي رضي الله عنه ثم حمله شرحبيل بن فارط فقتله بعض المسلمين ثم حمله صؤاب غلام لهم فقتله بعض المسلمين.
فلما قتل أصحاب اللواء انكشف المشركون منهزمين ونساؤهم يدعون بالويل وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ووقعوا ينتهبون العسكر ويأخذون الغنائم.
فلما رأى الرماة ذلك أقبل جماعة منهم وخلوا الجبل فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل وتبعه عكرمة فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير وانتقضت صفوف المسلمين ونادى إبليس: قتل محمد وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة من الصحابة أربعة عشر فيهم أبو بكر فأصيبت رباعيته وكلم في وجهه.
وفي الذي فعل به ذلك قولان: أحدها أنه عتبة بن أبي وقاص قال سعد بن أبي وقاص: كنت حريصًا على قتل عتبة فكفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله ”.
الثاني: أنه ابن قميئة فإنه علا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فضربه على شقة الأيمن فاتقاها طلحة بيده فشلت يده.
قال السدي: وابن قميئة هو الذي رمى وجه رسول الله بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه.
أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا عمرو بن حيويه قال: أخبرنا ابن معروف قال: أخبرنا ابن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني الضحاك بن عثمان عن ضمرة بن سعيد عن أبي بشر المازني قال: حضرت يوم أحد وأنا غلام فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فرأيت رسول الله وقع على كتفيه في حفرة أمامه حتى توارى فجعلت أصيح وأنا غلام حين رأيت الناس ثابوا إليه فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله أخذ يحضنه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا إبراهيم بن مخلد قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم الحكيمي قال: حدثنا الفتح ابن سخرف قال: سمعت محمد بن خلف العسقلاني قال: سمعت محمد بن يوسف الفريابي يقول: لقد بلغني أن الذين كسروا رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يولد لهم صبي فثبت له رباعية.
قال علماء السير: وترس أبو دجانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وكانت النبل تقع في ومر أنس بن النضر على عمر وطلحة في رجال من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فقال: ما يجلسكم قالوا: قتل رسول الله قال: فما تصنعون بالحياة قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
قال المصنف رحمه الله وكان أربعة نفر قد تحالفوا وتعاقدوا يوم أحد: لئن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنه أو ليقتلن دونه عمرو بن قميئة وأبي بن خلف وعبد الله بن شهاب وعتبة بن أبي وقاص.
وكان أبي قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لأقتلنك فلما طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صاح الشيطان: قتل محمد رآه أبي فقال: لا نجوت إن نجوت فقالت الصحابة: أيعطف عليه أحدنا فقال: دعوه فرماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجربة فكسرت ضلعًا من أضلاعه.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن داوود الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: قتل أمية بن خلف ببدر وكان أخوه أبي بن خلف قد أسر يومئذ فلما فدو قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن عندي فرسًا أعلفه كل يوم فرقًا من ذره أقتلك عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك عليه إن شاء الله فلما كان يوم أحد وانحاز المسلمون إلى شعب أحد بصر أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل عليه فشد عليه الزبير بن العوام ومع الزبير الحربة فأخذها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير: دعه وشد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه بها فدق ترقوته وخر صريعًا وأدركه المشركون فارتثوه وله خوار فجعلوا يقولون: ما بك بأس فيقول: أليس قد قال: أنا أقتلك فحملوه حتى مات بمر الظهران على أميال من مكة.
قال مؤلف الكتاب: وعلى هذا جميع أهل التاريخ أن الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف وأن أمية بن خلف قتل يوم بدر.
وقد روى البخاري في صحيحه: أن سعد بن معاذ قال لأمية بن خلف: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إنه قاتلك ” فقال: والله ما يكذب محمد فلما سار الناس إلى بدر أراد أن لا يخرج فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي فسر يومًا أو يومين فسار حتى قتله الله ببدر.
فيحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أمية يوم بدر وقتل أبي يوم أحد ويحتمل أن يكون بمعنى قوله: ” إنه قاتلك ” أي بقتلك أصحابه.
والله أعلم وقد ذكرنا قال علماء السير: كان اللواء مع مصعب بن عمير فقتل فأخذ اللواء ملك في صورته.
فأخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني الزبير بن سعد النوفلي عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له في آخر النهار: ” تقدم ” يا مصعب فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيد به.
قال علماء السير: قتل يومئذ حمزة وأصيبت عين قتادة بن النعمان فوقدت على وجنته فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها بيده فكانت أحسن عينيه.
قال مؤلف الكتاب: وكان ممن جرح فقاتل حميئة ومات وهو معدود من المنافقين.
أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا ابن جعفر قال: أخبرنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله على الرماة يوم أحد – وكانوا خمسين رجلًا – عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعًا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم قال: فهزموهم قال: وأنا والله رأيت النساء يشتددن على الخيل وقد بدت أسواقهن وخلاخيلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنظرون فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك قوله تعالى: {والرسول يدعوكم في أخراكم}.
فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلًا فأصابوا منا سبعين رجلًا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيرًا وسبعين قتيلًا فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد أفي القوم محمد أفي القوم محمد ثلاثًا قال: فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن الخطاب فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن أن قال: كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددتهم لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسؤك فقال: يوم أحد بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثله لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ألا تجيبوه ” فقالوا: يا رسول الله ما نقول قال: قولوا: الله أعلى وأجل ” قال: لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ألا تجيبوه قالوا: يا رسول الله وما نقول قال: ” قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ”.
قال علماء السير: وقامت هند في نسوة معها يمثلن بالقتلى يجدعن الأنوف والأذان حتى اتخذت هند من ذلك خدمًا وقلائد وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
فلما أراد أبو سفيان أن ينصرف نادى: موعدكم بدر العام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: ” قل نعم بيننا موعد ” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ” أخرج في آثار القوم فإن اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل: فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأنا جزنهم ”.
قال علي رضي الله عنه: فخرجت في آثار القوم فاجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة.
ثم أقبل المسلمون على قتلاهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع فمضى رجل فوجده جريحًا بين القتلى وبه رمق فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات فقال: أنا في الأموات أبلغ رسول الله عني السلام وقل له: يقول لك سعد بن الربيع: جزاك الله خير ما جزى نبيًا عن أمته وأبلغ قومك السلام عني وقل لهم لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف أم مات.
وخرج رسول الله يلتمس حمزة فوجده ببطن الوادي وقد بقر بطنه عن كبده ومثل به فقال: لو لا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير ولئن أنا أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين رجلًا منهم فقال المسلمون: والله لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب فأنزل الله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}.
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها فلقيها فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي فقالت: ولم وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل فلاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله فجاءت إليه واستغفرت له.
قتل من المسلمين يوم أحد حمزة قتله وحشي وعبد الله بن جحش قتله أبو الحكم بن الأخنس ومصعب بن عمير قتله ابن قميئة وشماس بن عثمان قتله أبي بن خلف وعبد الله وعبد الرحمن ابنا الهبيب ووهب بن قابوس وابن أخيه الحارث بن عقبة.
وقتل من الأنصار سبعون وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون منهم.
ولما أراد المسلمون دفن قتلاهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” احفروا وأعمقوا وقدموا أكثرهم قرآنا ”.
قال المؤلف للكتاب: واختلف الناس هل صلى على شهداء أحد أم لا على قولين.
وممن دفن في قبر واحد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح وسعد بن الربيع وخارجة بن زيد والنعمان بن مالك وعبدة بن الحسحاس وكان الناس قد حملوا قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم في نواحيها فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ردو القتلى إلى مضاجعهم ” فأدرك المنادي رجلًا ثم يكن دفن وهو شماس بن عثمان المخزومي.
أخبرنا أبو غلاب محمد بن الحسن الماوردي قال: أخبرنا المطهر بن عبد الواحد المراي قال: أخبرنا جعفر قال: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد المرزباني قال: حدثنا إبراهيم بن يحيى بن الحكم الحروري قال: أخبرنا لوين قال: أخبرنا شريك عن الأسود بن قيس عن نبيح عن جابر بن عبد الله قال: قتل أبي وخالي يوم أحد فحملتهما أمي على بعير فأتت بهما المدينة فنادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ردوا القتلى إلى مصارعهم ”.
قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله بدفن القتلى قال: ” انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام.
فانهما كانا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد فلما احتفر معاوية القناة أخرجا وهما ينثيان كأنما دفنا بالأمس ”.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش فنعي لها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن زوج المرأة منها لبمكان ” لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها.
أخبرنا المحمدان: ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا: أخبرنا أحمد بن أحمد قال: حدثنا محمد بن هارون قال: أخبرنا محمد بن حميد قال: أخبرنا عبد الرحمن بن معين قال: حدثنا الفضل بن فضالة عن ليث عن أنس قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قتل محمد حتى كبرت الصوارخ في نواحي المدينة فخرجت امرأة من الأنصار فاستقبلت بأخيها وأبيها وزوجها لا أدري بأيهم استقبلت أولًا فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: أمامك حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبالي إذ سلمت من عطب.
قال مؤلف الكتاب: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه فاطمة فقال: ” اغسلي عن هذا دمه يا بنية ”.
وورد في “تـاريخ الأمم والملوك” للطبري قوله حول غزوة أحد:
” قال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورءوسائهم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا؛ كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: لما أصيبت قريش – أو من قاله منهم – يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، فرجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه سلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة؛ وكل أولئك قد استعووا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وكان فقيراً ذا بنات، وكان في الأسارى، فقال: يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك
فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان ابن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤٌ شاعرٌ، فاعنا بلسانك، فأخرج معنا. فقال: إن محمداً قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه، فقال: بلى فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بنى كنانة. وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح؛ إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا جبير بن مطعم غلاماً له يقال له وحشى، كان حبشياً يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها. فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت عم محمد بعمى طعيمة بن عدي فأنت عتيقٌ.
فخرجت قريش بحدها وجدها وأحابيشها، ومن معها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة؛ ولئلا يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب – وهو قائد الناس، معه هند بنت عتبة ابن ربيعة – وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة – قال أبو جعفر: وقيل ببرة – بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية؛ وهي أم عبد الله ابن صفوان – وخرج عمرو بن العاص بن وائل بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد – وهي أم بني طلحة مسافع والجلاس وكلاب؛ قتلوا يومئذ وأبوهم – وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك ابن حسل، مع ابنها أبي عزيز بن عمير وهي أم مصعب بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة؛ وكانت هند بن عتبة بن ربيعة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت: إيهٍ أبا دسمة ! اشف واشتف – وكان وحشي يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة؛ من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت بقرأ فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام؛ وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء. فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة. وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد. فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال؛ وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: ألا يخرج إليهم؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضوره: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم؛ فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس؛ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم؛ حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لأمته؛ وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لنا.
قال أبو جعفر: وأما السدي؛ فإنه قال في ذلك غير هذا القول؛ ولكنه قال ما حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحداً، قال لأصحابه: أشيروا علي ما أصنع ! فقالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب، فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌ قط أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول – ولم يدعه قط قبلها – فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري، فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة؛ فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة، فقال له: بم ؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأني لا أفر من الزحف. قال: صدقت، فقتل يومئذ.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا ! نشير على رسول الله والوحي يأتيه ! فقاموا فاعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل؛ وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرج رجع عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم؛ فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا؛ قال الله عز وجل: ” إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا “، فهم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله عز وجل، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: قالوا: لما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله؛ استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل؛ فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه؛ حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة أنخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، فقال: أطاعهم فخرج وعصاني؛ والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوهم ! قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم؛ ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبو إلا الانصراف عنه ، قال: أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم ! قال أبو جعفر: قال محمد بن عمر الواقدي: انخزل عبد الله بن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين بثلثمائة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، وكان المشركون ثلاثة آلاف، والخيل مائتي فرس، والظعن خمس عشرة امرأة.
قال: وكان المشركين سبعمائة دارع؛ كان في المسلمين مائة دارع؛ ولم يكم معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة بن نيار الحارثي. فأدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين حين طلعت الحمراء – وهما أطمان، كان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما؛ فيتحدثان فلذلك، سميا الشيخين، وهو في طرف المدينة – قال: وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلة بالشيخين بعد المغرب؛ فأجاز من أجاز، ورد من رد، قال: وكان فيمن رد زيد بن ثابت وابن عمر، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وعرابة بن أوس. قال: وهو الذي قال فيه الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي ينمـي إلى الخيرات منقطع القرين
إذا مارايةٌ رفعت لـمـجـدٍ تلقاها عـرابة بـالـيمـين
قال: ورد أبا سعيد الخدري، وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد استصغر رافعاً، فقام على خفين له فيهما رقاع، وتطاول على أطراف أصابعه؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: كانت أم سمرة بن جندب تحت مرى بن سنان بن ثعلبة، عم أبي سعيد الخدري، فكان ربيبه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وعرض أصحابه، فرد من استصغر رد سمرة بن جندب، وأجاز رافع بن خديج، فقال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان: يا أبت، أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج، وردني وأنا أصرع رافع بن خديج، فقال: مرى بن سنان: يا رسول الله، رددت ابني، وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه ! فقال النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم لرافع وسمرة: تصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدها مع المسلمين.
قال: وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم أبو حثمة الحارثي.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه، فأصاب كلاب سيف، فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان يحب الفأل ولا يعتاف – لصاحب السيف: شم سيفك، فإني أرى السيوف ستسل اليوم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من رجلٌ يخرج بنا على القوم من كثبٍ، من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو حثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فقدمه فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك به في مال المربع بن قيظي – وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر – فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله؛ فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي؛ قال: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا؛ فهذا الأعمى البصر، الأعمى القلب. وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه، حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحدٌ حتى نأمره بالقتال؛ وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة المسلمين.
فقال رجل من المسلمين حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ! وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل؛ ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف وهو يومئذ معلمٌ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً، وقال: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.
فحدثنا هارون بن إسحاق: قال حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسٍحاق، عن البراء، قال: لما كان يوم أحد، ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير. وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقي القوم هزم المشركين حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن، وبدت خلاخيلهن، فجعلوا يقولون ،: الغنيمة الغنيمة ! فقال عبد الله: مهلاً، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم؛ فأصيب من المسلمين سبعون.
حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي: عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أقبل أبو سفيان في ثلاث ليال خلون من شوال، حتى نزل أحداً، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن في الناس فاجتمعوا، وأمر الزبير على الخيل؛ ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر ، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين؛ ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وقال: استقبل خالد بن الوليد؛ فكن بإزائه حتى أؤذنك، وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحن حتى أوذنكم.
وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد؛ فهزمه الله ومن معه، فقال: ” ولقد صدقكم الله وعده ” – إلى قوله – ” من بعد ما أراكم ما تحبون” ؛ وإن الله عز وجل وعد المؤمنين أن ينصرهم؛ وأنه معهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناساً من الناس؛ فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كونوا ها هنا، فردوا وجه من فر منا، وكونوا حراساً لنا من قبل ظهورنا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم بعض لبعض، ورأوا النساء مصعدات في الجبل، ورأوا الغنائم: انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوا الغنيمة قبل أن يسبقونا إليها، وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا، فلذلك قوله لهم: ” منكم من يريد الدنيا ” الذين أرادوا الغنيمة، ” ومنكم من يريد الآخرة ” الذين قالوا: نطيع رسول الله ونثبت مكاننا، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يومئذ.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين؛ وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتم أننا قد هزمناهم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم. وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير.
ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام: فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة؛ فهل منكم أحدٌ يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار ! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار، أو تعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم يا بن عم ! فتركه، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لعلي: ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه. ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان.
فلما رأى خالد بن الوليد – وهو علي خيل المشركين – حمل فرمته الرماة فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة؛ وحمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل، تنادوا فشدوا على المسلمين، فهزموهم وقتلوهم.
فحدثني بشر بن آدم، قال: حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: حدثنا عبيد الله بن الوازع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال الزبير: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا في يده يوم أحد؛ فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ قال: فقمت فقلت: أنا يا رسول الله، قال: فأعرض عني، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقمت فقلت: أنا يا رسول الله، فأعرض عني، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ قال: فقام أبو دجانة سماك بن خرشة، فقال: أنا آخذه بحقه، وما حقه ؟ قال: حقه ألا تقتل به مسلماً، وألا تفر به عن كافر؛ قال: فدفعه إليه. قال: وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة؛ قال: فقلت: لأنظرن اليوم ما يصنع، قال: فجعل لايرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه؛ حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل، معهن دفوف لهن؛ فيهن امرأةٌ تقول:
نحن بنات طـارق إن تقبلوا نعانـق
ونبسط النمـارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
قال: فرفع السيف ليضربها، ثم كف عنها، قال: قلت: كل عملك قد رأيت، أرأيت رفعك للسيف عن المرأة بعد ما أهويت به إليها ! قال: فقال: أكرمت سيف رسول الله أن أقتل به امرأة .
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم؛ حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني؛ فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله؛ فأعطاه إياه – وكان أبو دحانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء يعصبها على رأسه علم الناس أنه سيقاتل – فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عصابته تلك، فعصب بها رأسه؛ ثم جعل يتبختر بين الصفين.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، عن رجل من الأنصار من بني سلمة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دحانة يتبختر: إنها لمشيةٌ يبغضها الله عز وجل إلا في هذا الموطن. وقد أرسل أبو سفيان رسولاً، فقال: يا معشر الأوس والخزرج، خلوا بيننا وبينم ابن عمنا ننصرف عنكم، فإنه لا حاجة لنا بقتالكم. فردوه بما يكره.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان بن أمة، أحد بني ضبيعة؛ وقد كان خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، معه خمسون غلاماً من الأوس؛ منهم عثمان ابن حنيف – وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر – فكان يعد قريشاً أن لو قد لقى محمداً لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس، كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق – وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق – فلما سمع ردهم عليه، قال: لقد أصاب قومي بعدي شر. ثم قاتلهم قتالا شديداً، ثم راضخهم بالحجارة، وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال: يا بنى عبد الدار، إنكم وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم؛ وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم؛ إذا زالت زالوا؛ فإنما أن تكفونا لواءنا؛ وإما أن تخلوا بيننا وبينه فسنكفيكموه. فهموا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءانا، ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع ! وذلك الذي أرتاد أبو سفيان. فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بن عتبة في النسوة اللواتي معها، وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم، فقالت هند فيما تقول:
إن تقبلوا نعانـق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق
وتقول:
ويهاً بنى عبد الدار ! ويهاً حماة الأدبار |
ضرباً بكل بتـار
واقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دحانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين، فأنزل الله عز وجل نصره، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، قال: قال الزبير: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل كثير؛ إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل؛ فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخٌ: ألا إن محمداً قد قتل ! فانكفأنا وانكفأ علينا القوم؛ بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحدٌ من القوم.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبنى أبي طلحة، حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه؛ وهو يقول: اللهم هل أعذرت ! فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر:
فخرتم باللواء وشـر فـخـرٍ لواءٌ حين رد إلـى صـواب
جعلتم فخركم فيهـا لـعـبـدٍ من الأم من وطى عفر التراب
ظنتم والسفـيه لـه ظـنـونٌ وما إن ذاك من أمر الصواب
بأن جلادنـا يوم الـتـقـينـا بمكة بيعكم حمر الـعـياب
أقر العين أن عصـبـت يداه وما إن تعصبان على خضاب
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حبان ابن علي، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، قال: لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم؛ ففرق جمعهم، وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي.
قال: ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةً من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جماعتهم؛ وقتل شيبة بن مالك أحد بنى عامر بن لؤي، فقال جبريل: يارسول الله، إن هذه للمواساة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه منى وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكما، قال: فسمعوا صوتا:
لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا على
قال أبو جعفر: فلما أتى المسلمون من خلفهم انكشفوا وأصاب منهم المشركون، وكان المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثاً: ثلث قتيل، وثلث جريح، وثلث منهزم؛ وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع، وأصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم السفلى، وشقت شفته، وكلم في وجنتيه وجبهته في أصول شعره، وعلاه ابن قميئة بالسيف على شقه الأيمن؛ وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم أحدٍ، كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيهم بالدم. وهو يدعوهم إلى الله عز وجل ! فأنزل الله عز وجل : ” ليس لك من الأمر شيءٌ ” الآية.
قال أبو جعفر: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم: من رجلٌ يشري لنا نفسه ! فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن، قال: فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: إنما هو عمارة بن زياد ابن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، ثم رجلاً، يقتلون دونه؛ حتى كان آخرهم زيادٌ – أو عمارة بن زياد بن السكن – فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت من المسلمين فئةٌ حتى أجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنوه منى، فأدنوه منه، فوسده قدمه؛ فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه؛ حتى كثرت فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعدٌ: فلقد رأيته يناولني ويقول: ارم فداك أبي وأمي ! حتى إنه ليناولني السهم ما فيه نصلٌ، فيقول: ارم به ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان؛ فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان؛ حتى وقعت على وجنته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده؛ فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
قال أبو جعفر: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميثة الليثي.
وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرجع إلى قريش، فقال: قتلت محمداً. فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي؛ وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني – وكان يكنى بأبي نيار – فقال له حمزة بن عبد المطلب: هلم إلي يا بن مقطعة البظور – وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختانة بمكة – فلما التقيا ضربه حمزة فقتله، فقال وحشي غلام جبير بن مطعم: والله إني لأنظر إلى حمزة يهذ الناس بسيفه، ما يليق شيئاً يمر به؛ مثل الجمل الأورق؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم إلي يا بن مقطعة البظور ! فضربه؛ فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في لبته حتى خرجت من بين رجليه، وأقبل نحوي، فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي؛ ثم تنحيت إلى العسكر؛ ولم يكن لي بشيء حاجة غيره.
وقد قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة؛ كلاهما يشعره سهماً؛ فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بني، من أصابك ؟ فيقول: سمعت رجلاً حين رماني يقول: خذها وأنا ابن الأقلح ! فتقول: أقلحي ! فنذرت لله إن الله أمكنها من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر. وكان عاصم قد عاهد الله ألا يمس مشركاً أبداً ولا يمسه.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ؛ أخو بني عدي بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر؛ عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم ؟ قالوا: قتل محمد رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا كراما، على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم استقبل القوم؛ فقاتل حتى قتل؛ وبه سمى أنس بن مالك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة وطعنة فما عرفه إلا أخته ، عرفته بحسن بنانه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس: ” قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ” – كما حدثني ابن شهاب الزهري – كعب بن مالك، أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا ! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أنصت.
فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين. فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد ! لا نجوت إن نجوت | فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا ؟ قال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة – قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها؛ ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً .
وكان أبي بن خلف – كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف – يلقى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فيقول: يا محمد إن عندى العود، أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه ! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا اقتلك إن شاء الله. فلما رجع إلى قريش، وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير؛ فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد. قالوا: ذهب والله فؤادك؛ والله إن بك بأس. قال: إنه قد كان بمكة قال لي: أنا أقتلك؛ فوالله لو بصق على لقتلني. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة.
قال: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس. ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه؛ فوجد له ريحاً فعافه؛ ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم؛ وصب على رأسه؛ وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يقول: والله ما حرصت على قتل رجل قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص؛ وإن كان ما علمت لسيئ الخلق، مبغضاً في قومه؛ ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله “.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: أتى ابن قميئة الحارثي أحد بني الحارث ابن عبد مناة بن كنانة، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر، فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه، فأثقله وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إلى عباد الله ! إلى عباد الله ! فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنبف، فحماه طلحة، فرمى بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي؛ وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل أنا أقتله، فقال: يا كذاب، أين تفر ! فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع؛ فجرح جرحاً خفيفاً، فوقع يخور خوار الثور؛ فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة، فما يجزعك ؟ قال :أليس قال: ” لأقتلنك “ | لو كانت بجميع ربيعة ومضر لقتلتهم ! فلم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي؛ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان ! يا قوم إن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم .
قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل؛ فإن رب محمد لم يقتل. فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد: اللهم أني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل؛ وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة؛ فلما رأوه وضع رجلٌ سهماً في قوسه، فأراد أن يرميه فقال: أنا رسول الله؛ ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله حياً، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن؛ فأقبلوا يذكرون الفتح، وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فقال الله عز وجل للذين قالوا: ” إن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم “: ” وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين “.
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وأهمهم أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لهم أن يعلونا؛ اللهم إن تقتل العصابة لا تعبد ! ثم ندب أصحابه، فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم؛ فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويومٌ بيوم بدر. وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب، وكان جنباً فغسلته الملائكة؛ وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر؛ وقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: قل: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: أفيكم محمداً | أما إنها قد كانت فيكم مثلة؛ ما أمرت بها ولا نهيت عنها؛ ولا سرتني ولا ساءتني؛ فذكر الله عز وجل إشراف أبي سفيان عليهم، فقال: ” فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم “، والغم الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني إشارف العدو عليهم، ” لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ” من الغنيمة ” ولا ما أصابكم ” من القتل حين تذكرون. فشغلهم أبو سفيان.
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال – فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عنه – بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب؛ ومعه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا؛ فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها. وقد كان بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع؛ فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، ، عن الزبير ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع.
قال أبو جعفر: وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى بعضهم إلى المنقى دون الأعوص، وفر عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان ” رجلان من الأنصار “؛ حتى بلغوا الجلعب ” جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص “، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.
قال أبو جعفر: وقد كان حنظلة بن أبي عامر الغسيل، التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود – وكان يقال له: ابن شعوب – قد علا أبا سفيان، فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم – يعنى حنظلة – لتغسله الملائكة. فسلوا أهله: ما شأنه ؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة، فقال شداد ابن الأسود في قتله حنظلة:
لأحمين صاحبي ونفسـي بطعنةٍ مثل شعاع الشمس
وقال أبو سفيان بن حرب، وهو يذكر صبره ذلك اليوم، ومعاونة ابن شعوب شداد بن الأسود إياه على حنظلة:
ولو شئت نجتني كميتٌ طـمـرةٌ ولم أحمل النعماء لابن شـعـوب
فما زال مهرى مزجر الكلب منهم لدى غدوةٍ حتى دنت لـغـروب
أقاتلـهـم وأدعـى يال غـالـبٍ وأدفعهم عني بركـن صـلـيب
فبكى ولا ترعى مـقـالة عـاذلٍ ولا تسأمى من عبرةٍ ونـجـيب
أباك وإخواناً له قد تـتـابـعـوا وحق لهم من عبرةٍ بـنـصـيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني قتلت من النجار كـل نـجـيب
ومن هاشم قرماً نجيباً ومصعـبـاً وكان لدى الهيجاء غـير هـيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونـتـي لكانت شجي في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منـهـم لهم خدبٌ من مغـبـطٍ وكـئيب
أصابهم من لم يكـن لـدمـائهـم كفياً ولا في خـطةٍ بـضـريب
فأجابه حسان بن ثابت فقال:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشمٍ ولست لزورٍ قلته بـمـصـيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهـم نجيباً وقد سمـيتـه بـنـجـيب
ألم يقتلوا عمراً وعتـبة وابـنـه وشيبة والحجاج وابن حبـيب |
غداة دعا العاصي عليا فـراعـه بضربة عضبٍ بله بخـضـيب
وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:
ولولا دفاعي يا بن حربٍ ومشهدي لألفيت يوم النعف غير مـجـيبٍ
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ضباعٌ عليه أو ضـراء كـلـيب
وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله:
وما زال مهري مزجر الكلب منهم
وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر:
وإنك لو عاينت ما كان منهـم لأبت بقلبٍ ما بقيت نـخـيب
لدى صحن بدرٍ أو لقامت نوائحٌ عليك، ولم تحفل مصاب حبيب
جزيتهم يوماً ببدر كـمـثـلـه على سابحٍ ذي ميعة وشبـيب
قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة – فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان – والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدعن الآذان وألأنوف؛ حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشياً، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب قال لحسان: يا بن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها، قائمة على صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة ! فقال له حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وأنا على رأس فارع – يعني أطمه – فقلت: والله إن هذه لسلاحٌ ما هي بسلاح العرب؛ وكأنها إنما تهوي إلى حمزة؛ ولا أدري. أسمعني بعض قولها أكفيكموها؛ قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هنداً:
أشرت لكاع وكان عادتهـا لؤماً إذا أشرت مع الكفر
لعن الإله وزوجها معهـا هند الهنود عظيمة البظر
أخرجت مرقصةً إلى أحدٍ في القوم مقتبةً على بكر
بكرٍ ثفـال لا حـراك بـه لا عن معاتبةٍ ولا زجـر
وعصاك إستك تتقين بهـا دقى العجاية هند بالفهـر
قرحت عجيزتها ومشرجها من دأبها نصا على القتـر
ظلت تداويها زميلـتـهـا بالماء تنضحه وبالـسـدر
أخرجت ثـائرةً مـبـادرةً بأبيك وابنك يوم ذي بـدر
وبعمك المستوه فـي ردعٍ وأخيك منعفرين في الجفر
ونسيت فاحشةً أتيت بـهـا يا هند، ويحك سبة الدهر
فرجعت صاغرةً بلا تـرةٍ منا ظفرت بها ولا نصـر
زعم الولائد أنهـا ولـدت ولداً صغيراً كان من عهر
قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم -فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: ثم إن أبا سفيان أشرف علينا، فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه؛ مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتجيبوه، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت ياعدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك ! فقال: اعل هبل ! اعل هبل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل ! قال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول ؟ قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ! قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال؛ أما إنكم ستجدون في القوم مثلاً لم آمر بها ولم تسؤني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في حديثه: لما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيته فانظر ما شأنه ؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً ؟ فقال عمر: اللهم لا؛ وإنه ليسمع كلامك الآن، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر؛ لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمداً. ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاهم مثلٌ والله ما رضيت ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت.
وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة؛ وهو يومئذ سيد الأحابيش، قد مر بأبي سفيان بن حرب، وهو يضرب في شدق حمزة يزج الرمح؛ وهو يقول ذق عقق ! فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بأبن عمه كما ترون لحماً ! فقال: اكتمها، فإنها كانت زلة؛ فلما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل نعم هي بيننا وبينك موعد.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون ! فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل، وامتطوا الإبل؛ فإنهم يريدون مكة؛ وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل؛ فهم يريدون المدينة؛ فوالذي نفسي بيده؛ لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؛ فلما اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني. قال عليٌ عليه السلام: فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح؛ ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بي من الفرح؛ إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة.
وفرغ الناس لقتلاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخي بني النجار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من رجلٌ ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع ؟ – وسعد أخو بني الحارث بن الخزرج – أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل؛ فنظر فوجده جريحاً في القتلى به رمق، قال: فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر له: أفي الأحياء أنت أم في الأموات ؟ قال: فأنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته؛ وأبلغ عني قومك السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وفيكم عينٌ تطرف. ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت رسول الله فأخبرته خبره. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما بلغني – يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى بحمزة ما رأى، قال: لو لا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أنا أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على ما فعل بعمه، قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أخبرني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، قال ابن حميد، قال سلمة: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل أنزل في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: ” وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين “، إلى آخر السورة، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.
قال ابن إسحاق: وأقبلت – فيما بلغني – صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة – وكان أخاها لأبيها وأمها – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فارجعها، لا ترى ما بأخيها. فلقيها الزبير فقال لها: يا أمه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فقالت: ولم، وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان من ذلك ! لاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه؛ واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: فزعم بعض آل عبد الله بن جحش – وكان لأميمة بنت عبد المطلب خاله حمزة؛ وكان قد مثل به كما مثل بحمزة؛ إلا أنه لم يبقر عن كبده – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفنه مع حمزة في قبره، ولم أسمع ذلك إلا عن أهله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد وقع حسيل بن جابر – وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان – وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه؛ وهما شيخان كبيران: لا أبا لك ! ما تنتظر ؟ فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار ؛إنما نحن هامة اليوم أو غد؛ أفلا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعل الله عز وجل يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأخذا أسيافهما، ثم خرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما؛ فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر، اليمان، فاختلف عليه أسياف المسليمن فقتلوه؛ ولا يعرفونه. فقال حذيفة: أبي ! قالوا: والله إن عرفناه.
وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ! فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسليمن، فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رجلاً منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد، فأتى به إلى دار قومه وهو يموت؛ فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولن من الرجال والنساء: أبشر يا بن حاطب بالجنة، قال: وكان حاطب شيخاً قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فقال: بأي شيء، تبشرونه، أبجنة من حرمل ! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني به | حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجلٌ أتى لا يدرى من أين هو، يقال له قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار؛ فلما كان يوم أحد، قاتل قتالاً شديداً، فقتل هو وحده ثمانيةً من المشركين أو تسعة، وكان شهماً شجاعاً ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجالٌ من المسلمين يقولن: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر ! قال: بم أبشر ! والله إن قاتلت إلا على أحساب قومي؛ ولولا ذلك ما قاتلت؛ فلما اشتدت عليه جراحته، أخذ سهماً من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات؛ فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أشهد أنى رسول الله حقاً ! وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي، وكان أحد بني ثعلبة ابن الفطيون، لما كان ذلك اليوم قال: يا معشر يهود؛ والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌ. قالوا: إن اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته. وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما بلغني: مخيريق خير يهود.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وقد احتمل ناسٌ من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن أشياخ من بني سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ حين أمر بدفن القتلى: انظروا عمرو بين الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام. فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، فاجعلوهما في قبر واحد. قال: فلما احتفر معاوية القناة أخرجا وهما يثنيان كأنما دفنا بالأمس.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش – كما ذكر لي – فنعى لها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له؛ ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن زوج المرأة منها لبمكان؛ لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها.
قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له ! فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد؛ فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيراً يا أم فلان؛ هو بحمد الله كما تحبين؛ قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جللٌ ! قال أبو جعفر: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، وناولها عليٌ عليه السلام سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه؛ فوالله لقد صدقني اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وزعموا أن علي بن أبي طالب حين أعطى فاطمة عليهما السلام سيفه قال:
أقاطم هاك السـيف غـير ذمـيم فلست بـرعـديدٍ ولا بـمـلـيم
لعمري لقد قاتلت في حب أحمـدٍ وطاعة ربٍ بالـعـبـاد رحـيم
وسيفي بكفي كالشـهـاب أهـزه أجذ به من عـاتـقٍ وصـمـيم
فما زلت حتى فض ربي جموعهم وحتى شفينا نفس كـل حـلـيم
وقال أبو دجانة حين أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل به قتالاً شديداً – وكان يقول:
رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولولت؛ فإذا امرأة؛ فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة – وقال أبو دجانة:
أن الذي عاهدني خلـيلـي ونحن بالسفح لدى النخـيل
ألا أقوم الدهر في الكـيول أضرب بسيف الله والرسول
المراجع
ar.al-hakawati.net/2012/01/23/%D8%BA%D8%B2%D9%88%D8%A9-%D8%A3%D9%8F%D8%AD%D9%80%D8%AF/الموسوعة الحكواتي
التصانيف
عقيدة عقيدة إسلامية غزوات
|