العقل النمطي مقولب داخل حقيقية أحادية لا يستطيع الخروج منها عاجز عن النقد والمساءلة والتحليل، هو العقل المقلد ومسخ مكرر، نسخة مصنعية لنماذج سابقة ومتشابهة تفتقد الأصالة والابتكار.
العقل المؤدلج (حركي) أي ينبت على حواف فكر وتنظيم يسقيه ويغذيه ولا يستطيع الخروج عن تعاليم التنظيم يستمد منه مصداقيته ويدثره بدفء الانتماء، وكما يقول المبدع جورج أورويل في روايته 1984(الولاء يعني انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة للتفكير، الولاء هو عدم الوعي) وفي النهاية العقل المؤدلج غير قادر على صناعة الحضارة، لأن الحضارة متحركة ديناميكية مستجيبة للسنن الكونية في التبدل والتغير ودفع مركبة البشرية إلى الإمام، ولكن العقل المؤدلج استاتيكي سكوني أسير وعي يعجز عن مغادرة مسلماته ومرابعه.
وعندما أبدى بعض المؤدلجين فرحاً عارماً بفوز حزب العدالة والتنمية التركي بالانتخابات الأخيرة (فرح يعادل فرح المسلمين بفتح القسطنطينية) كانوا عندها يستمتعون بتحقيق خطوة جديدة باتجاه (دولة الخلافة) حلمهم الأسمى، فهم يقومون بعملية غربلة وقصقصة للمشهد الحاضر لجعله يتوازى مع أحلامهم القديمة، ويلقون على الواقع غلالة أمانيهم بحيث تحجب حقيقته.
فحزب العدالة والتنمية التركي ليس إلا إحدى مخرجات حكم علماني دستوري وإرث أتاتوركي عسكري استمر ما يقارب القرن، نتج عنه دولة مدنية حديثة، أي دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة عبر انتخابات سياسية، وترتبط بالتزامات عميقة اتجاه المجتمع الدولي عبر حلف الناتو وسواه من المنظمات الدولية، المفارقة أن الرئيس التركي حينما زار المنطقة أخبرهم بأن (العلمانية هي الحل) وفصل الدين عن الدولة هو المدخل الوحيد للتقدم الحضاري، ولكنهم لم ينصتوا إلا إلى ما يتوافق مع مفاهيمهم وعلى قلوب أقفالها فالعالم لديهم يختفي خلف قضبان الأيدلوجيا.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
والميول العاطفية والانفعالية تحجب الكثير من النشاط الإدراكي القائم على التحليل والنقد.
النموذج الآخر هو واعظ محلي، استثمر خطابه الديني وطالب النساء الحركيات حوله بالمشاركة بالانتخابات البلدية النسائية كنوع من الجهاد، حتى لا تفوز بها المواطنات الأخريات من اللواتي لا يتوافقن مع أجندته (هكذا)!!
فقد تجاوز مشكلته القديمة مع تواجد المرأة في الفضاء العام، وإرث طويل من حجب حقوقها، ومنعها من استحقاقاتها الوطنية، وتجاوز موقفه من فكرة الانتخابات عموماً كونها ممارسة ديمقراطية دخيلة على مدونته المعرفية.
وفجأة عندما أصبح الأمر حقيقة واقعة، هرول العقل المؤدلج لقطف ثمار ذلك الانجاز الوطني الذي تمثل في مشاركة المرأة في الانتخابات البلدية، فهو لا يبالي بمواقفه السابقة بقدر حرصه على الاستحواذ على مزيد من مساحات النفوذ.
هذه نماذج فاقعة على العقل الأيدلوجي أسير أطر وأجندات مسبقة، حيث علاقتها منبتة عن واقعه، وغير قادر على خلق علاقة تفاعلية منتجة وإيجابية مع محيطها، لأنه محجوب خلف القضبان.