في مقال نشر في «الأيام» في 21/5 وردت الفقرة التالية: «كل القوى المتقاتلة في سورية وبالذات تلك المنغمسة بالقتال في حلب وجوارها تعي تماما أن معادلة التوافق الدولية المفروضة من القوى المتحكمة بمسار الأحداث في سورية « تحرّم « على اي طرف تحقيق انتصار حاسم (في حلب)».
ما زال التحريم قائما.
فكلما نجح النظام وحلفاؤه في تحقيق إنجازات وتحرير مواقع، على طريق استعادة حلب بكامل أحيائها ومحيطها الى الدولة السورية وسيادتها، قامت القوى المتحكمة باستنفار قوى المعارضة المسلحة ( لا فرق بين من يصنفها المجتمع الدولي إرهابية او معتدلة) وتوحيد قواتها وخططها، ثم تزويدها بالأسلحة المناسبة ودفعها لشن هجوم واسع معاكس لاستعادة المواقع التي حررت. تكرر هذا السيناريو اكثر من مرة وما زال مستمرا.
ليس مهما للقوى المحركة مدى النجاح الذي يحققه الهجوم المعاكس ولا نسبة ما يستعيده من المواقع المحررة. المهم بالنسبة لها الّا يسجل للنظام وحلفائه انتصار يتحول الى حقيقة سياسية لها ابعاد وترجمات حاسمة، ويفتح الباب لتحرير مدن وقرى كثيرة من ادلب وصولا الى الرقة.
المهم لها، ان يستمر القتال وان يواصل السيناريو تكراره وان يستمر تقسيم حلب الى غربية وشرقية وضواح وقرى محررة واخرى تحت سيطرة الإرهاب، وان يستمر صدور البيانات العسكرية عن القوى المسلحة مهما كانت درجة تضخيمها وابتعادها عن الحقيقة.
ويبقى الخاسر الأول في كل ذلك «حلب» بأهلها وغنى تنوعهم وروعة تعايشهم، وبمنشآتها وصناعاتها وتراثها ومستقبلها وفنها، وبالحياة الزاخرة بالغنى والجمال فيها.
الاقتحام التركي لبعض الشمال السوري بحجة صراعه مع الأكراد ومنعا لقيام كيان لهم متواصل الأجزاء، مهما كان عظم الشك بهذه الإمكانية ومهما كانت طبيعة هذا الكيان، يضيف تعقيدا كبيرا الى معركة حلب. ان الاقتحام التركي وإعلان التصميم على توسيع مساحته وصولا الى مدينة «الباب» بقدر ما هو انتهاك للأرض والسيادة السورية، فانه يضع القوات التركية على تماس مباشر مع معركة حلب في تصادم مع الجيش العربي السوري وحلفائه.
وهذا الاقتحام يصب في المحصلة لصالح منع او تأجيل ضرب قوى الإرهاب وهزيمة مشروعها بالمنطقة. وهو يذكّر بحقيقة ان كل الوجود الإرهابي ومأسسة مشروعه وسيطرته على مناطق سورية، ما كان ليتم لولا الدعم والإمداد التركي بكل الوسائل والأشكال والتسهيلات اللوجستية.
الاقتحام التركي على خط معركة حلب السورية بالتوازي والتوافق مع الاقتحام التركي على خط معركة الموصل العراقية، بثنائية تبدو متلازمة ومخططاً لها، يعيد الى الذاكرة العربية ثنائية حلب/ الموصل وخصوصية العلاقة بينهما كما استمرت لسنين طويلة منذ اواخر الخلافة العثمانية.
الاقتحام التركي ليس في وارد التذكير بهذه الثنائية التاريخية ومفاخرها.
بالاقتحامين في شمال سورية وشمال العراق:
تريد تركيا أولاً، ان تستبق الأحداث ومآلاتها وتفرض لنفسها دورا مؤثرا في اي مشروع لتسوية أمور المنطقة كلها ولضمان حصتها فيها اذا ما فرضت هذه التسوية إعادة التقسيم والتوزيع. وفي هذا الإطار يأتي نبش أردوغان صفحات تاريخ اسود وفتحه دفاتر الاستعمار والعنصرية العثمانيين، كما جاء في أحاديثه عن اتفاقية لوزان وفي ادعاء مسؤوليته عن حماية التركمان والسنّة.
وتريد ثانيا، منع قيام كيان كردي، كما تمت الإشارة آنفا، وهو ما باتت تخشاه بعمق في ظل العلاقة التي ترفّعها تركيا – بدون أساس موضوعي- إلى درجة تحالف أميركي كردي، ورفع الأكراد سقف مطالبهم القومية على وقع التطورات في المنطقة.
تركيا تقوم بالاقتحام والتدخل الموصوف في سورية والعراق بانسجام تام مع ما تقوم به داخل دولتها ومجتمعها وتجاه كل من ليس مناصرا للحزب الحاكم فيها ومتفقا مع سياساته، وعلى حساب الديمقراطية والعلمانية ولصالح التفرد والاستفراد.
وتركيا تسعى بجد وتصميم للعودة الى زمن العثمانية وسلاطينها، وزمن الهيمنة على الجوار لصالح تكريس مشروعها كقوة اقليمية مهيمنة ومقررة، مستفيدة من الفراغ والسيولة التي تعيشها المنطقة العربية وغياب اي مشروع لها.
انها تسعى الى تركيا بهوية « العثمانية الجديدة» بدلا من الهوية الوطنية كما أسسها اتاتورك.
قد يكون حال الـ «ستاتيكو» في حلب هو احد، او اهم، العوامل وراء حالة الموات في مساعي الحل السياسي الدولية في سورية، خصوصا وان هذه المساعي تكاد تنحصر تماما في القوى الدولية المتحكمة بمسار الأحداث بكل ما بينها من تعارض في المصالح واشتباك بالحسابات واختلاف على مناطق النفوذ، ما يعطي المبرر لتخوف البعض من حرب عالمية تبدأ من سورية.
هل سمع احد منذ شهور طويلة عن دور ومواقف للائتلاف الوطني المعارض، او اي من مسميات المعارضة المدنية الأُخرى؟
هل تذكّر احد وجود الجيش الحر الذي بنت عليه المعارضة أمانيها بالانتصار الحاسم، الا عندما تسلل الى بعض المناطق تحت إبط القوات التركية وملحقا بها؟
ويرتبط بحال الستاتيكو، ان الفرز بين ما تطلق عليها الدول الغربية القوى والتنظيمات المعتدلة عن القوى الارهابية تأكدت واقعيا استحالته المطلقة. فهذه القوى(المعتدلة) تلتصق بالقوى الارهابية وتدور في فلكها وتلتقي معها في قناعاتها وخططها ان لم نقل بفكرها ايضا. ويبقى للالتصاق مبررا وجوديا حتى لو انتفت كل المبررات سابقة الذكر وهو مبرر استمرار البقاء والوجود خوفا من استفراد قوات النظام وحلفائه بها وتصفيتها اذا ما حصل الفرز.
يبقى الحل السياسي بعيد المنال، وتبقى حلب هي ام المعارك وبوابة الحل.