-1- يحكي (نزار قبَّاني) في إصداره «الأعمال النثريَّة الكاملة»، عن (منشورات نزار قبَّاني: بيروت، (د.ت))، عن قِصَّة عصره الشِّعري، معبِّرًا عن شهادته عليه، تحت عنوان «معركة اليمين واليسار في شِعرنا العربي». وقد جاء خِطابه هناك بأسلوب يُظهر الشِّعر العربي شِعرًا بدائيًّا جدًّا، قاصرًا، متتلمذًا على الشِّعر الأوربي! ليقول، ومعه الحق، إنه في العصر الحديث كان مجرد تابع للمدارس الغربيَّة، ومسرحًا لتيَّاراتها، دون أن يُقدِّم إلى الإنسانيَّة تجربةً فنِّيَّةً مختلفة، أو رؤية خاصًّة. وكأنما حَسْبُه أن يلهث خلف الأصوات الغربيَّة، لعله وعساه أن يواري سوأته الشِّعريَّة. وهو خطاب يكشف، ضمن ما يكشف،
عن مقدار ما تنطوي عليه النفسيَّة العربيَّة من مشاعر نقصٍ، واستصغارٍ للذات، وإكبارٍ للآخَر، وتمجيدٍ له. وهذا بنقيض ما تفعله أُمم أخرى تحترم تراثها، وألوانها الفنِّـيَّة الخاصَّة، مهما كانت محدودةً، أو متواضعة، أو تستدعي التجديد. فاليابان مثلًا لم تستهن يومًا بفنِّ الهايكو الشِّعري، بل قدَّمته إلى العالَم بوصفه فنًّا شِعريًّا يابانيًّا له مميِّزاته، ويحمل تفرَّده، وشخصيته. تخيَّلوا لو كانت لدى اليابان معلَّقات العرب، وموشَّحاتهم، وبحور شِعرهم، وبلاغتهم، ماذا كانوا بذلك كلِّه فاعلين؟! لو كان لديهم هذا التراث لصدَّروا أنماطه أدبًا عالميًّا حيًّا، يظلّ في حَدَقَة المحافل الأدبيَّة والعواصف النقديَّة.
نعم سيطوِّرونه، ولن يناموا عليه، لكنهم في الآن نفسه لن يمسخوه بدعوَى التحديث. سيرتَـقون به مع الحفاظ عليه، كما فعلوا بأزيائهم، وألوان طعامهم، وأدوات حيواتهم اليوميَّة. فالياباني ما زال يأكل بالعيدان، مثلًا، ويستعمل «المهفَّة»، أو المروحة الخصفيَّة؛ لا لأنه لم يكتشف بعد فضائل استعمال الشوكة والملعقة الغربيتين على عيدانه، أو لم يدرك أن العصر لم يعد عصر المهفَّة، ولكن لأنه يعتزَّ بمعطيات ثقافته، إلى درجة التقديس، مهما كانت قديمة، أو جزئيَّة. ولهذا كان اليابان هو اليابان، وظلّ العرب هم العرب، يتقلَّبون أبدًا من تقليدٍ إلى تقليد، ومن تبعيَّة إلى أختها. وإذا كانت تلك نفسيَّة شاعرٍ كبيرٍ كنزار قبّاني، لا يُعوزه الانتماء الثقافي، ولا التمكُّن من أدواته الفنِّـيَّة، فكيف بسواه؟!
وإذا كانت مشاعر الصَّغار أمام الغرب، والانكسار حيال تجربته، قد اكتسحت موهبةً كموهبة نزار، فذلك مؤشِّر على انسحاقٍ شاملٍ للثقافة العربيَّة في مقابل ثقافة الآخَر. حيث لا نقف في ذلك السياق لدى نزار على كلمةٍ واحدةٍ تنمّ على تصوّرٍ أن لدى العرب ما كان يمكن أن يقدِّموه إلى العالم على مستوى الفن الشِّعري. جُلّ ما لديهم- حسب الخطاب القبَّاني- تُحَفٌ ينبغي عليهم أن يغسلوها بماء الغرب الناري، إنْ هم أرادوا أن يكونوا أمَّة بين الأُمم! هكذا يتبدَّى أمامنا نموذجٌ صارخ، ذو دلالة كُبرى، على العقليَّة والنفسيَّة العربيَّتين، منذ ذلك التاريخ المبكِّر، في ستينيات القرن العشرين. لكأنَّ العرب بلا حضارة، ولا لُغة، ولا شِعر، فيما هم ذلك كله، كما يشهد الغرب نفسه، وبما يستنكف العرب أنفسهم منه. وكأنَّ تفوُّق الغرب التقني هو بالضرورة تفوُّقٌ شِعري؛ ولذلك فما دمنا لا نصنع طائرة، فقصيدتنا، قياسًا إلى القصيدة الغربيَّة، هي كالأتان مقارنةً بطائرة الكونكورد! هذه هي المعادلة الحضاريَّة التي تجري في رأسٍ متخلِّفٍ فكريًّا، مغلوبٍ على عقله ونفسه. أمَّا الإنسان السويّ، فلا يحمل عُقـَــد النقص تلك، بل يسعى إلى استكمال ما لديه من خبرات وتجارب بما لدى الآخرين من خبرات وتجارب.
وحين نتوقَّف عند شهادة قبَّاني تلك، فلا لكي نُحمِّلها ما لا تحتمل، بل إنها في الحقيقة لتحمل من الدِّلالات ما لا تقوله كلماتها صراحةً، ولكن نتوقَّف عندها من حيث هي تعبير صادق، باحَ بمكنون شاعرٍ، في حالة استرخاء نفسي. ليُصبح كلامه اعترافًا بحالةٍ نفسيَّةٍ جمعيَّةٍ عامَّة، تعتور النُّخَب قبل سائر الناس، حول مكانة العرب في الميزان العالمي. وهو اعترافٌ يعرِّي شعورًا بالدُّونيَّة، والاتِّضاع؛ فإذا هو ينظر إلى تقنية القصيدة كما ينظر إلى تقنية النانو! لم يعرف منها العرب في الأمس إلَّا شميمًا عابرًا، محمَّلًا بالأتربة والغُبار، ولا سبيل لهم اليوم كذلك لكي يعرفوا معنى الشِّعر إلَّا أن يأتمُّوا بسادتهم الأوربيين، ويبايعوا خلفاءهم الراشدين، منذ هوميروس إلى فاليري، وصولًا إلى "آخر العنقود"، في زمنه، كما يسميه نزار: ت. س. إليوت!
صحيح أن نزارًا لم يكن يتبنَّى التبعيِّة العمياء التي يتبنَّاها سواه، وصحيح أنه ظلَّ يعتزّ بماهيَّة الشِّعر العربي، غير أنه كان ضمن جوقة المولِّين وجوههم قـِبَـل الغرب، دون أن يلحظوا ما تحت أقدامهم. لقد كانوا مدفوعين بوسواسٍ قسريٍّ صوب الآخَر، سياسيًّا، واقتصاديًّا، وثقافيًّا، وأدبيًّا، وشِعريًّا. وما مصطلح «اليمين» و«اليسار» في عنوان موضوع نزار إلَّا مؤشِّر على ذلك الربط بين النظريَّة الاقتصاديَّة والنظريَّة الشِّعريَّة، فالماركسي يومئذٍ هو النموذج، وهو الطليعي، وهو بعد ذلك كلِّه: الشِّعر! والرجل يُقِيْم جدله على أساسٍ واثقٍ، وكقاعدة صُلبة، أن «اليسار» في الحياة هو «اليسار» في الثقافة، ومن ثَمَّ هو الثوريَّة والحداثة في الشِّعر. وبنقيضه «اليمين»، بحسب تسميته، مثال التقليديَّة والتبتُّل في محراب القديم. وليت شِعري، ما دامت الحكاية: يسارًا ويمينًا، وتبعيَّة وتقليديَّة، أيهما كان أشرف للعربي الحرّ: أن يتبتل في محراب كارل ماركس، أم في محراب المعرِّي، وأبي الطيِّب، أو حتى محراب عَبيد بن الأبرص؟!
إن فلتات عبارات نزار تلك تكشف عن خيطٍ تَبَعيٍّ، أيديلوجيٍّ، كان في حقيقته أغلالًا ما انفكَّت تقتاد المثقفين العرب إلى بلاط الغرب، ظاهرها الأدب والحداثة، وباطنها الولاء المطلق، في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة؛ ولاءً خالط اللحم والعظم.. أسكر العقول، واستخفَّ الأفئدة.
فخَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ أشدُّ ارتماءً في أحضان الخليفة الأوربي، وأقلّ ممناعةً ومناعةً مكتسبة، وأعرى عن فضائل سلفهم، اللغويَّة أو الثقافيَّة. فتناسلوا بيننا أجيالًا من المعوقين، والتَّوَحُّديِّين، والمُشْكِلِيْن، ممَّن لا تستطيع- للأمانة- عدَّهم من سلالتهم، ولم يستطيعوا أن يُصبحوا غيرهم، رغم محاولاتهم المستميتة، وأملهم الذي لم ينقطع حبله منذ قرن، في أن يناموا ويستيقظوا وقد صاروا زُرق العيون شُقر القلوب.. وحسبهم بذلك مفخرة!
-2-
إن أحد ملامح العبقريَّة الشِّعريَّة العربيَّة، على سبيل المثال، تكمن في (النَّظْم)، الذي تحدَّث عنه عبدالقاهر الجرجاني. ولا يعني النَّظْم في الشِّعر ذلك التصوُّر السطحي الساذج، المتمثِّل في اتِّساق المفردات في وزنٍ وقافيةٍ، ولكنه تركيبٌ يجعل جملة البيت الواحد ككلمة واحدة. وهي خاصيَّة قلَّما يُتقنها الشُّعراء، حتى الفحول منهم. خاصيَّة تَضيع في شِعر التفعيلة تمامًا؛ بحيث تغدو الكلمات هنالك سربًا منثورًا، كحالها في النثر تقريبًا، لتتحوَّل من نظميَّتها الشِّعريَّة إلى نظميَّة أخرى، هي نظميَّة نثريَّة. ومن ثَمَّ تفقد تلك الطاقة التي تمنحها إيَّاها خاصيَّة النَّظْم في القصيدة العربيَّة، فيفقد الشِّعر العربي بذلك واحدة من أهم «ميكانزماته» الفارقة بينه وبين شِعريَّة شِعرٍ آخر. بيد أن مغسولي الذوائق لا يُدركون هذا البُعد الجمالي، ومغسولي الانتماء لا يكترثون له، أصلًا!
على أن شِعريَّة العرب ألوان شتَّى. فأنت واجد في الشِّعر العبّاسيّ، مثلًا، إحكام الصنعة اللفظيَّة، والتفنُّن التركيبي. فيما ستجد في الشِّعر الجاهلي سِحرًا لا تجده في سواه، في تلك اللوحات المنداحة في إيحاءاتها الغامضة، كمعارض سورياليَّة. دُرِس تقليديًّا كوصف للطبيعة، وما هو في حقيقة الشِّعر إلَّا رسمٌ رمزيٌّ للروح الإنسانيَّة ومعاناتها، من قِبَل فنَّان لم يكن له من الفنون سوى الكلمة؛ فجعلها مَرسمه، ومسرحه، وفيلمه السرمدي. لكن ذلك كلّه قد اندثر؛ لم يُنَـمَّ، ولم يُستثمر. وكلما جاء جيلٌ اكتفى بأن يأخذ عن سالفه فُتاتًا، وقشورًا ظاهريَّة، وأَهمل اللباب، إن لم يَـتنكَّر له ويَجفوه عن جهلٍ بقيمته. بل أزعم أن تراثنا الشِّعري لم يُقرأ عِلْميًّا، بَعْدُ، حقَّ قراءته، إلَّا لِمامًا، وما يُغني اللِّمام.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «معركة اليمين واليسار في شِعرنا العربي!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12167، الثلاثاء 23 أكتوبر 2012م، ص26].
المراجع
diwanalarab.com
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية