تقاسيم على أوتار قصيدة "حب"
للشاعر المغربي عبد السلام المساوي
أن تكون شاعراً،
يعني أن تغمر نفسك بالزّمن المباشر،
كما لو كان ذلك موجاً بحرياً هائلاً.
- والت ويتمان -
همسة :
يتقدم إلينا الشاعر الكبير عبد السلام المساوي من بين جفون الشعر المغربي المعاصر بكل ألقه.كالفجر المحمل بالعطر الوجودي مشى في جسد الحرف؛ يكسوه الحب، ترسل خطواته أغنيات تفتح أهداب الروح، لتطل قصائده من شرفة كل المدارات، تتهجى الحدود الخفية، وتمشي في فسحة زرقاء.
أي عرس هذا الذي يدعونا إليه، وقد فك أزرار سماواته منتعلا نار الكلام؟
طرقة على نوافذ البوح
من تخوم الذهول تأتي أشعاره، راقصة فوق صفحة الماء، تطوف بالأنحاء، بأي مطر سقت عوسجها؟، و أي خيوط روحية تلك التي خاطت عشقها؟.
نعم؛ هذا الشاعر الذي يقيم في أبهاء القصيدة، يسكر من عُنَّابِهَا، ويتمتع بِجَرَّةِ ملذاتها، معطفه من عروشها مسكون بالتيه في مجازاتها، فمن أين سأمر وكل الحدائق معلقة على بوابة الشعر العظمى؟
لكني أراه يركع فوق مذبح الاعترافات قائلا في آخر ديوان له :
" هذا جناه الشعر علي "*
مررت من دهاليز المعري ، أقرأ بصماته هنا وهناك، فوجدت :
هذا جناه أبى علىَّ وما جنيت على أحد
هذه الجناية بالنسبة لشاعرنا كانت نبضا سرى في رحم الأبجدية، فكانت شرارة لقراءة الكون.
ولنشرب قهوة قصيدة حب ، ص: 12 ـ 13 من هذا الديوان
قال : اكتب
فعصاني القلم
ومال القلبُ إلى مخبأه الرطيب
قال: اكتبْ
فتراءت في الأفق نُجيمات
ووجدتني أحث الخطى
في اتجاه العاصفة
قال : اكتب
قلت: وما الحب؟
قال: البحث عن الشبيه
في غابة متحركة
قلت: وما الغابة؟
قال: ليست الأشجار ما أعني
فتهت بين الصفصاف
والكروم
و أنا أحصي الأغصان
و الأوراق
والفاكهة.
يمر هذا النص من ثلاث مراحل :
الأولى :عصيان القلم وميل القلب نحو الدفء = ( الحنين، التذكر،الشوق،...)
الثانية:انسياب اليراع والسفر في البعد الجمالي للأشياء
الثالثة :يسأل عن ماهية الحب باحثا عن الفرح المباح
1 ـ لقد رمى بنا الشاعر في عوالم الكتابة الخاصة بهذا النص المفعم بالحيرة والتمرد، ثم الاستسلام لنار الحرف.
يقول:
قال: اكتبْ
ممن يا ترى كان يتلقى أوامر الكتابة ؟
يعتبر الإلهام تلك الشرارة الخفية التي أسهب الأدباء في القبض على معانيها، أو ذاك المغناطيس الذي يبعث القوة الكامنة في النفس، حيث يخرج المبدع من حدود المألوف؛ لعبور قارة المستحيل بآلياته المتعددة.إنها لحظة الخلق الفني التي تكون فجائية، وتستعصي على مظان التأويل و الحدس. تبعثر حنايا الشاعر مفرداتٍ وتخييلاً، لذا فإن شعر شاعرنا بعيد عن ما رصده أبو النجم العجلي :
و إني و كل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر.
بين اكتب واقرأ، مسافة ضوئية تستقي أشعتها من الألوهية والنبوة، فأول ما خلق الله اللوح المحفوظ والقلم، قال له: اكتب.
والنبي صلى الله عليه وسلم تلقى أمر القراءة باستغراب لأنه يجهلها، حيث قال عليه السلام: "ما أنا بقارئ " والقراءة مرتبطة بالكتابة.
فهل هذا تناص متعمد من الشاعر؟ إذا كان الجواب بالنفي، لماذا لم يخضع لأوامر الكتابة؟
يفتح عبد السلام المساوي حوارا مع نفسه ، في البدء كانت الفكرة، لكنها كانت مجرد إشارة على اقتحام مجهول النص، فهل هي حالة عدم توهج لتلك الومضة التي تجعل الكتابة تسري في أوصال الهمس، راصدا لحظة تلك الولادة؟ أم أنه مجرد تشنج أصاب يده، فلم يستطع أن يسفك المداد على صدر البياض، حيث تَمَنَّعَ القلم هيبة لا عصيانا متعمدا؟
لقد وقف الشاعر في حالة مبهمة أمام هذا الشعور الغير الواضح المعالم والقسمات، هذا الإلهام الخاضع لتأثيرات تحاول تحديد جيشان الرغبة في الحفر، مستندا على الفكرة المتوجهة من الداخل، لتنبجس القصيدة في إيقاعاتها ولغتها على الورق نبعا، يتحول لموسيقى تقول الأشياء كما يراها.
فبمجرد ما خاط القلب ثوب الريح المعلق على كاهل الصمت،هبطت فوق أوراقه أنجم نقرأ في كفها وجه الشمس.
2 ـ
قال : اكتبْ
فتراءت في الأفق نجيمات (...)
ينقلنا الباذخ عبد السلام المساوي فوق جسر الزمن النفسي الذي تمت فيه ولادة قصيدة "حب"، في ذاتية تستحضر الآخر، من خلال مجموع "الأنا" المتشكلة بين التمرد المنفلت، إلى الذوبان في الوجود الإنساني العميق. مَادًّا ذراعيه لاحتضان ضوضاء الكون، في لغة سِرِّيَّةٍ تدفع به نحو المجهول، حاثا خطاه نحو أفكار تنزف أزمنتها بين أسوار الحياة.
لم اختار انتعال الأصوات التي تتقمص التيه؟ حيث يسرع الخطو في اتجاه الخراب. يقرأ أحلامه من خلال أفق مفتوح على قراءات تتكئ على تحرره في عالم التخييل الشعري. تنضح أبجديته حزنا مغلفا بخُصلة من شعر الأرض، لتبدأ فلسفته في معانقة وردة الحلم.
3 ـ
قال: اكتب
فقلت: وما الحب؟(...)
ما أكبر هذا السؤال الذي تدلى من جبين الشاعر مرآة ضوء، يبحث عن مفتاح للدخول لقبيلة الحب.
تحضرني أبيات لابن الفارض يقول فيها:
هو الحب فاسلم بالحشا ما لهوى سهل ُ فما اختاره مضنى به،وله عقلُ
وعش خالياً ، فالحب راحتـه عنـاً وأولـهُ سـقم وآخره قتلُ
وقف الشاعر حائرا أمام خارطة نصه المشبع بالإشارات الساكنة في الوجدان، أو ليس أدل على ذلك من العنوان ذاته الحابل بكل طاقات المشاعر المشتعلة بالبهاء. والحب عنده هو البحث عن الشبيه و هو النصف الآخر ، حتى يتحقق ما قصده شاعر بقوله :
كأن فـؤادي ليس يشفي غـليله سـوى أن يـرى الـروحينِ يمتزجـان
كانت المرحلة الثالثة من هذا النص مثل لوحة سريالية تحمل حزن انكيدو* نحو عالم مقنع، تضيع فيه القيم المثلى.
فكيف يمكن لشاعر ذبيح على سفح الرقة أن يجد بعض المحلوم به في أرض رعشتها القلق، وحلمها الكبير يجود بالرمق؟
نظرة فوق بساط الحكي
أخذنا هذا النص إلى تخوم غنائية، تنفتح على دلالات ذات أفق مراوغ، حيث تنفجر القصيدة بإيقاعها الداخلي داخل رؤية تنفتح على معنى الحياة بكل تشظياتها.
وما أمير الحرف عبد السلام المساوي إلا ظاهرة استثنائية في الشعر المغربي المعاصر، والذي أمطْتُ أمامه اللثام عن مقولة "أدونيس" :"لا غاية للإبداع إلا الإبداع"..
يقول:
هل تَكتبين الآن على شاهدتي:
هذا جناه عليه الشعرُ
وما جنى على أحد
أو تشربين قهوة الغفران
في باحة من كلمات؟
مربع نص: الشاعر قرب قبر أبي العلاء المعري
الهوامش:
*ديوان هذا جناه الشعر علي، الطبعة الأولى 2008 ، مطبعة أنفو بفاس.
*أنكيدو شخصية من الميثولوجيا السومرية، سمي أيضا بإنكيمدو وإياباني وإنكيتا في عصور مختلفة، وهو شخصية أساسية في ملحمة جلجامش الشهيرة، حيث صارع الملك جلجامش قبل أن يصبح صديقه الأقرب، وتقوم الملحمة على ذكر مغامراتهما سوية.
صدر للشاعر:
1 ـ خطاب إلى قريتي (شعر) 1986
2 ـ البنيات الدالة في شعر أمل دنقل ( دراسة) 1994
3 ـ سقوف المجاز (شعر) 1999
4 ـ عناكب دم المكان (سرد) 2001
5 ـ عصافير الوشاية (شعر) 2003
6 ـ إيقاعات ملونة ( قراءات في الشعر المغربي المعاصر) 2006