لقد أضحى مصطلح التلقي مرتبطا ارتباطا وثيقا بجامعة كونستانس الألمانية ، حتى عدا ذكر إحداهما يستلزم الأخرى ، و الأمر ليس غريبا ، ما دامت نظرية التلقي قد استوت على سوقها هناك ، بعد أن ارتوت بماء الفكر عبر قرون طويلة ، تنبع من الفلسفة اليونانية ، لتصب في النهضة الأوروبية الحديثة ، مرورا بعيون متنوعة من الثقافة الإنسانية لعل أبرزها الثقافة العربية التي تأثرت بالنبع و أثرت في المصب !
لا تروم هذه الورقة التفصيل في تشعبات النظرية المتشابكة ، و لا البحث عن جذورها أو أصولها ، بقدر ما تهدف إلى بيان أهم ركائزها التي يمكن تحديدها في ثلاثة ركائز أساسيـــــة ، و هي :
1 – القارئ :
يعتبر القارئ محور نظرية التلقي التي شكلت ثورة في تاريخ الأدب ، حين أعادت الاعتبار لهذا العنصر ، و بوأته المكانة اللائقة على عرش الاهتمام الذي تناوبه المؤلف و النص مــــن قبل ، ذلك أن : ( القارئ ضمن الثالوث المتكون من المؤلف و العمل و الجمهور ، ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر دوره على الانفعال بالأدب ، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ ) 1 ، و هذا الأمر يستهدف نظرة جديدة للعلاقة بين التاريخ و الأدب ، مما يعني ( إلغاء الأحكام المسبقة التي تتميز بها النزعة الموضوعية التاريخية ، و تأسيس جمـــــالية الإنتاج و التصوير التقليدية على جمالية الأثر المنتج و التلقي )
 و هذه العلاقة الحوارية تفرض على مؤرخ الأدب ( أن يتحول أولا و باستمرار إلى قارئ قبل أن يتمكن من فهم عمل و تحديده تاريخيا )3
و إذا كان الاهتمام بالقارئ يشترك فيه جميع منظري التلقي فإن الاهتمام انصب حول تحديد سمات هذا القارئ ، حيث خلص الدكتور إدريس بلمليح إلى تحديد أربعة أنماط من القراء :
 1 – القارئ النموذجي الذي استعمله المفكر الأسلوبي مكاييل ريفاتير ليحدد في ضوئه مظاهر القراءة الأسلوبية التي تتطلب شخصا متمرسا كل التمرس بنظام لغة الشعر ، و مدركا لطبيعة الاختلاف بين هذه اللغة و بين اللغة اليومية .
2 – القارئ الخبير ، و يتلخص فعله بالسعي الدائم إلى إخصاب مضامين النصوص التي تعتبر وثائق أفكار و أحاسيس تنقلها اللغة .
3- القارئ المقصود ، و هو من توجه إليه النص حين ظهوره المبدئي أي الذات الجماعية التي عاشت الأوضاع التاريخية للمبدع " ثم الذات التي تشكل استمرارا مباشرا للنص ، و تقمصا جديدا لفعله ، في إطار نوع من التكامل بينهما .
4 – القارئ الضمني ، و يرى الدكتور بلمليح أن امبرتو ايكو هو أول باحث حدد هوية هذا القارئ ، إذ يمثل المقصد الذي يوصله نشاطه التعاوني إلى استخراج ما يفترضه النص و يعدنا به لا ما يقوله النص في حد ذاته ، إضافة إلى ملئه الفضاءات الفارغة و ربطه ما يوجد في النص بغيره مما يتناص معه . 4
و لعل هذا القارئ الأخير شغل مساحة مهمة من فكر منظري التلقي ، لا سيما ايزر الذي فصّل في مفهوم هذا القارئ ، إذ يرى أنه ( مجسد كل الاستعدادات المسبقة الضرورية بالنسبة للعمل الأدبي كي يمارس تأثيره ، و هي استعدادات مسبقة ليست مرسومة من طرف واقع خـــــارجي و تجريبي ، بل من طرف النص ذاته . و بالتالي فالقارئ الضمني كمفهوم ، له جذور متأصلة في بنية النص ؛ إنه تركيب لا يمكن بتاتا مطابقته مع أي قارئ حقيقي )5
 و قد بين روبرت هولب أن ايزر نسخ مفهوم القارئ الضمني عن مفهوم المؤلف الضمني لواين بوث في كتابه بلاغة الفن القصصي 6
و عموما فإن الاحتفال بالقارئ عند رواد نظرية التلقي واكبته نظرة جديدة إلى هذا القارئ ؛ نظرة تهدف إلى تجاوز سلبيته التي راكمتها قرون إهماله ، فغدا صاحب فعل جديد يصل إلى حد المشاركة في صنع المعنى لأن ( القارئ الذي يتوقف عند مرحلة " فهم المعاني اللفظية " أي العلامات اللغوية داخل أنساق يحكمها قانون التوحد بين طرفي العلامة ، ليس هو القارئ الذي يتحدث عنه أصحاب نظرية التلقي ، لأن هذا القارئ لن يكون قادرا على " ملء فراغات النص " ، و قيام القارئ بملء فراغات النص هو جوهر التلقي )7 فما المقصود بالفراغ أو الفجوة ؟ و هل المعنى موجود سلفا في النص كما قصده المؤلف ؟ أم يعكس انطباع القارئ ؟
2 – بناء المعنى
 قبل الحديث عن المعنى عند أصحاب التلقي ، لا بد من تحديد مفهوم الفراغ أو الفجوة ، مفهوم ارتبط برومان انجاردن الذي رفض في فلسفته الظواهرية ثنائية الواقع و المثال في تحليل المعرفة ، و رأى أن العمل الفني الأدبي يقع خارج هذه الثنائية ، فلا هو معين بصورة نهائية ، و لا هو مستقل بذاته ، و لكنه يعتمد على الوعي و يتشكل في هيكل أو بنية مؤطرة ، تقوم في أجزاء منها على الإبهام الناشئ عما تشتمل عليه من فجوات أو فراغات يتعين على القارئ ملؤها )8
إن الهيكل أو البنية المؤطرة التي يتحدث عنها انجاردن ، تتشكل من أربع طبقات للعمل الأدبي هي : ( أصوات الكلمات ، و معاني الكلمات ، و الأشياء التي يمثلها النص ، و أخيرا الجوانب التخطيطية )9
فإذا كانت الأشياء في الواقع لا تحتمل غير معنى واحد و محدود و معروف ، فإنها على النقيض من ذلك في العمل الأدبي ، بل ( ينبغي لها أن تحتفظ لنفسها بدرجة من الإبهام )10، و هذا الإبهام يقوم القارئ بتحديده ، و هو ما يصطلح عليه التحقق العياني الذي هو ( نشاط يقوم به القراء يتعلق باستبعاد العناصر المبهمة أو الفراغات ، أو الجوانب المؤطرة في النص ، أو بملئها )11
بيد أن ملء الفراغ ، يختلف باختلاف قدرات القراء : ( و لكن القراء في ممارستهم عملية التحقق العياني يجدون الفرصة كذلك لإعمال خيالهم ، ذلك بأن ملء الفراغات بأشياء محددة يتطلب قو ة إبداعية ، يضيف إليها انجاردن المهارة و حدة الذهن كذلك )12
و بهذا نقترب من التفاعلية التي اشتهر بها ايزر ، و حديثه عن إنتاج المعنى ، لا سيما إذا كنا أمام قارئ يمتلك خيالا خصبا ، و ذهنا حادا ، ذلك أن ايزر : ( ينظر إلى معنى النص على أنه من إنشاء القارئ و لكن بإرشاد من التوجيهات النصية ، و من ثم فإن القراء أحرار في ظاهر الأمر في أن يحققوا بطرق مختلفة معاني مختلفة تحقيقا عيانيا ، أو في أن يخلــــــقوها خلقا )13 و من هنا فإن ايزر و ياوس كليهما ينظران إلى أن المعنى يتحقق نتيجة التفاعل بين القـــــارئ و النص كما يوضح ذلك عز الدين إسماعيل قائلا : ( فهم ياوس التفسير على أنه نشاط القارئ في فهم النص ، و كذلك الشأن بالنسبة لايزر الذي ذهب إلى أن المعنى لا يستخرج من النص ، أو تشكله المفاتيح النصية ، بل الأحرى أنه يتحقق من خلال التفاعل بين القارئ و النــــــص ، و التفسير عندئذ لا يستلزم استكشاف معنى محدد للنص )14
 نستخلص من هذه المقارنة التي عقدها الدكتور عز الدين إسماعيل بين قطبي التلقي : يــــاوس و ايزر ، أن النص لا يحمل قصدا معينا بله المؤلّف ، بل إن المعنى لا يستخرج من النص كشيء ثابت محدد ، بقدر ما يكون البحث عنه ( التفسير ) نشاطا " يقوم به القارئ في فهم النص " على حد تعبير ياوس ، و كفى بهذا دليلا على نفي القصدية كما يؤكد ذلك الدكتور عبد العزيز حمودة قائلا : ( موقف أعضاء نادي التلقي من القصدية ، يتفق مع ما انشغلوا به من نقل سلطة التفسير بالكامل إلى القارئ أو فعل القراءة ، ففي ظل هذا التحول الجديد لا يصبح لقصد المؤلف أو النص مكان في  القراءة التأويلية ، و لهذا يتفق أصحاب التلقي في إجماع ، باستثناء صوت واحد تقريبا هو صوت هيرش ، على نفي القصدية )15
بيد أن نفي القصدية و نقل سلطة التفسير إلى القارئ ، مع ما يواكب ذلك من تعدد القراءات للنص الواحد ، بل و تعدد قراءات القارئ الواحد للنص الواحد ، كل ذلك أسهم في دق جرس خطر الفوضى ، و هو ما تنبه له رواد النظرية كما بين ذلك الدكتور حمودة قائلا : ( لقد اشتركوا جميعا في إدراك مخاطر نظرية التلقي ، و في مقدمتها فوضى التفسير بالطبع ، و هكذا حاولوا جميعا تقديم ضوابط للتفسير تتمثل عند البعض بالجماعة أو الجماعات المفسرة ، و أسماها آخرون بأفق التوقعات التي يجيء بها الفرد إلى النص في بداية فعل القراءة )16 فما مفهوم أفق التوقع ؟ و ما موقعه ضمن نظرية التلقي ؟
3- أفق التوقع :
 لقد بين الدكتور عبد العزيز حمودة أن محور نظرية التلقي الذي يجمع عليه رواد النظرية هو أفق التوقع قائلا :  ( إن محور نظرية التلقي الذي لا يختلف عليه أي من أقطاب النظرية منذ ظهوره في الثلاثينات حتى الثمانينات هو " أفق توقع القارئ في تعامله مع النص . قد تختلف المسميات عبر الخمسين عاما ، و لكنها تشير إلى شيء واحد : ماذا يتوقع القارئ أن يقرأ في النص ؟ و هذا التوقع ، و هو المقصود ، تحدده ثقافة القارئ ، و تعليمه ، و قراءاته السابقة ، أو تربيته الأدبية و الفنية )17
 و بالرغم من ارتباط المصطلح بياوس فإن جذوره ممتدة في الفلسفة الأوروبية ، و لعل جادامر أبرز المنظرين الذين فصّلوا في مفهوم الأفق الذي : ( يصف تمركزنا في العالم ، و لكن ينبغي ألا نتصور على أنه مرتكز ثابت و مغلق ، و الأصح أنه " شيء ندخل فيه ، و هو يتحرك معنا " ... و يمكن كذلك تعريفه بالإشارة إلى التحيزات التي نحملها معنا في أي وقت بعينه ، ما دامت هذه التحيزات تمثل أفقا لا نستطيع أن نرى أبعد منه )18
 ويرى هولب أن ياوس قد عرف مصطلح الأفق تعريفا غامضا للغاية ، معتمدا في إفهامه على الإدراك العام لدى القارئ19، ثم يخلص إلى أن مصطلح أفق التوقعات ربما ظهر ( لكي يشير إلى نظام ذاتي مشترك أو بنية من التوقعات ، إلى " نظام من العلاقات " أو جهاز عقلي يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي نص )20
رغم أن ياوس قد سعى إلى أجرأة هذا المصطلح من خلال محاولة موضعته ، حيث هدف تعريفه بدقة حين قال : ( و نقصد بأفق التوقع نسق الإحالات القابل للتحديد الموضوعي الذي ينتج و بالنسبة لأي عمل في اللحظة التاريخية التي ظهر فيها ، عن ثلاثة عوامل أساسية : تمرس الجمهور السابق بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل ، ثم أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل ، و أخيرا التعارض بين اللغة الشعرية و اللغة العملية ، بين العالم الخيالي و العالم اليومي )21
ففي هذا النص الذي لا يستغني عنه أي دارس لنظرية التلقي عموما ، و لمصطلح أفق التوقع خصوصا ، يحدد ياوس العوامل الأساسية التي تصنع نسق الإحالات القابل للتحديد الموضوعي أي أفق التوقع ، و يحصرها في ثلاثة عوامل :
 1 – المعرفة القبلية التي يكتسبها القارئ عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل الأدبي الذي سيقرأه ذلك أن ( العمل الأدبي – حتى في لحظة صدوره – لا يكون ذا جدة مطلقة تظهر فجأة في فضاء يباب .... فكل عمل يذكر القارئ بأعمال أخرى سبق له أن قرأها ) 22
 2 – " أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل " أو ما عبر عنه ياوس في موضع آخر بــــ ( العلائق الضمنية التي تربط هذا النص بنصوص أخرى معروفة تندرج في سياقه التاريخي ) 46 حيث إن النص الجديد : ( يستدعي بالنسبة للقارئ ( أو السامع ) مجموعة كاملة من التوقعات و التدبيرات التي عودته عليها النصوص السابقة و التي يمكن في سياق القراءة أن تعدل أو تصحح ، أو تغير أو تكرر ) ً45 ، فالقارئ يبني أفقا جديدا من خلال اكتساب وعي جديد ، و ذلك بعد التعارض الذي يحصل له عند مباشرته للنص الأدبي بمجموعة من المحمولات الفنية و الثقافية و بين عدم استجابة النص لتلك الانتظارات و التوقعات23
 3 – التعارض بين اللغة الشعرية ( العالم الخيالي ) و اللغة العملية ( العالم اليومي ) ، الشيء الذي يسمح بمزاولة مقارنات أثناء القراءة بالنسبة للقارئ المتأمل24 إذ إن ( هذا العنصر الأخير يسعف القارئ على إدراك العمل الجديد تبعا للأفق المحدود لتوقعه الأدبي ، و تبعا كذلك لأفق أوسع تعرضه تجربته الحياتية ) 24
 يتضح مما سبق أن ياوس يفترض في القارئ معرفة مهمة تكتسب عن طريق الدراية و الممارسة من خلال معاشرة النصوص و الإحاطة بالسنن الفنية التي تميز بين الأجناس الأدبية إذ يقول الدكتور أحمد بوحسن في هذا الصدد : ( و يكون القارئ مدركا لتوالي النصوص في الزمان ، بحيث ينفذ ببصيرته إلى النصوص التي تأتي باختلالات أو تشويشات جديدة على التقاليد الفنية القديمة ، ثم يلتقط القارئ تلك البذور الفنية الجديدة التي تقوى على طرح تساؤلات جديدة على الانتظارات التقليدية الجارية المعهودة )25
و هكذا نخلص إلى أن نظرية التلقي قد شكلت ثورة في دراسة الأدب حين نقلت الاهتمام إلى المتلقي الذي أهملت المناهج و النظريات السابقة التي ركزت على المبدع أو النص ، و ما أحوجنا إلى استثمار هذه النظرية في إعادة قراءة تاريخنا الأدبي الذي أسهم المتلقون في تشييده .

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب