( تعقيباً على المحاضرة التي قدمها الأستاذ شاهر نصر في مبنى اتحاد كتاب العرب في طرطوس بتاريخ 17-5-2009 بعنوان : سعدالله ونوس مبدع مسرح المستقبل)
لقد مرت تجربة سعدالله ونوس بأربعة مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى " المسرح الذهني "
مسرحيات هذه المرحلة هي ( مأساة بائع الدبس الفقير – الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا – جثة على الرصيف – الجراد – المقهى الزجاجي – لعبة الدبابيس – فصد الدم – عندما يلعب الرجال – ميدوزا تحدق في الحياة)
يقول سعد الله ونوس حول هذه المرحلة : " ....... كنت أكتب مسرحيات للقراءة ... وليس في ذهني أي تصور لخشبة المسرح ... ولقد تأثر حينها بالأفكار الوجودية ... وفي تلك الفترة قرأت كل ما ترجم من مسرحيات سارتر .. وفي مسرحياتي الأولى تأثرت بيونسكو "
تتميز مسرحيات هذه المرحلة بالعمومية , والاندفاع نحو التجريد لأن القمع والخوف كان طاغيا آنذاك . وأهم ما يلفت النظر في هذه المسرحيات استغراقها في الذهنية يعني أن سعد الله كان يتوجه للقارئ لا للمتفرج ، حيث أن لغة هذه المسرحيات مغرقة في الشعرية التي لا تسجل الفعل بقدر ما تصفه ففي مسرحية بائع الدبس الفقير يقع بائع الدبس ضحية القمع ومصادرة الكلام ، وفي لعبة الدبابيس يريد أن يقول : يمكن لأي مهرج أن يصل إلى الحكم عندما تغيب الديمقراطية ، وفي جثة على الرصيف يصبح الشرطي أداة قمع بيد الغني الذي يرغب في شراء الجثة ليطعمها إلى كلبه ويصبح الإنسان سلعة تباع وتشترى حتى بعد موته .
ولأن هذه المرحلة بالسطوة والقمع فقد آثر ونوس الإغراق في الرمز الذي يمكن أن يقول مداورة ما يخشى أنن يقال مباشرة
المرحلة الثانية ( مرحلة التجريب و البحث عن شكل مسرحي جديد )
سافر ونوس إلى باريس وكان هاجسه أن يتعلم المسرح الأوربي وأن يشكل موقفا نقديا من هذا المسرح ، وكان المسرح الأوربي حينها يتخلى عن أدواته التقليدية ويتبنى أدوات أكثر تحررًا وحميمية حيث التقى حينها برواد اتجاهات الحداثة في المسرح الأوربي وقرأهم بشكل أكاديمي مثل : بريخت –أنتوان أرتو – بيسكاتور. ورغب ونوس أن يجاريهم ، وأثناء دراسته في فرنسا قال له المخرج الفرنسي جان ماري سيرو : " من الخطأ الفادح أن تبنوا مسارح على الطريقة الأوربية، بوسعكم أنتم بالذات أن تساعدوا التجربة المسرحية على الخروج من الأشكال المتجمدة التي وصلت إليها في أوربا "
وعلى ما يبدوا أن ونوس أخذ بهذه النصيحة ، فبدأ يستمد مضامين مسرحياته من التراث الشعبي العربي , كما استمد تقنياته المسرحية من المسرح الأوربي الذي تبنى أشكالا جديدة فعلا مثل : المسرح الملحمي عند بريخت والمسرح التسجيلي عند بيتر فايس والمسرح الارتجالي عند برانديلو ( كما شرح ذلك فرحان بلبل في مداخلة له عن ونوس ) وقد تجلى ذلك عندما عاد إلى دمشق وأصدر بيانات لمسرح عربي جديد ، حيث يكرس فيها أن دور المسرح لا ينحصر في مواكبة سطحية للأحداث , ولا في تجاوب شكلي مع الأزمات ، وإنما في قدرته أن يتعمق في البيئة التي يحيا فيها وأن يتلمس مشكلاتها ويعرفها ويساهم في دراستها وتحليلها ثم يؤثر في تطورها وسيرها .
كما طرح ونوس في بياناته مفهوم تسييس المسرح موضحا المشكلة السياسية في المسرح من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المتشابكة داخل بنية المجتمع، ومحاولاً استشفاف آفاق تقدمية لحل تلك المشكلات ، وأراد أن يجعل المسرح أداة تغيير وذلك عن طريق التعليم لحفزه وشحنه بالفكر التقدمي ليزيده احتقانا .
بالمقابل لم يتخلى ونوس عن جماليات النص والعرض لأنه يعي بدقة أن مسرح التسييس هو من أجل التواصل مع المتفرج ومحاورته، وهذا التواصل لا يكون إلا عن طريق هدم الجدار الرابع للخشبة المسرحية . وعلى هذا الأساس كتب مسرحية حفلة سمر من أجل 5 حزيران ومسرحية الفيل يا ملك الزمان ومسرحية مغامرة رأس المملوك جابر ومسرحية الملك هو الملك . وكل هذه المسرحيات تعتمد على السيرة والأمثولة وتستوحي التراث , وتأخذ بالأشكال المسرحية الجديدة ، وعلى رأسها الارتجال ، والجماعية ، وكسر الجدار الرابع من أجل إشراك المتفرجين في الحوار .
المرحلة الثالثة ( مرحلة الصمت والانقطاع عن الكتابة (
منذ عام 1979 وحتى 1989 لم يكتب ونوس شيئا خلال تلك السنوات . ليس بسبب المرض ،لأن المرض ظهر في عام 1992،,بل بسبب توالي الخيبات والهزائم . فمن تتالي الاغتيالات التي توجهت نحو المثقفين والتنويريين الذين قتلوا على أيدي سلفيين رجعيين إلى هزيمة المشروع الذي آمن به ، فهو يقول عن ذلك : ( إن إشكالية البرجوازية الصغيرة ، والتعقيد الذي وسمت به حياتنا المعاصرة، إضافة إلى هزيمة المشروع الذي كنا نحمله ، وكنا نعتقد بصورة أو بأخرى ممكن التحقيق ... هذان عاملان ،إضافة إلى بعض الأسباب الشخصية هما اللذان أربكاني وجعلاني صامتا كل هذه الفترة ).
وكان صمته عبارة عن وقفة تأملية ومراجعة نقدية للذات وللتجربة عموماً ، وقد توصل نتيجة هذه المراجعة المتأنية إلى أننا لم نواجه الفكر السلفي كما يجب، مما جعلنا ننام على حرير الاعتقاد بأن هذا الفكر سيضمحل بحكم الحتمية التاريخية . وفي حديث له عن هذه المرحلة يقول أيضاُ :
(خلال سنوات انقطاعي عن الكتابة والتي كابدت فيها سراديب الاكتئاب ،كنت أعلم أنني لا أستطيع أن أواصل الكتابة إلا بعد مراجعة جدية لما أنجزته ، وإلى ما آل إليه المسرح في بلادنا ... ومراجعة التدهور الذي أصاب المشروع الوطني ...... هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كان علي أن أكتشف أيضا أن المشروع الوطني بما يعنيه من تقدم وتحرر وحداثة، لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا ونوازعنا ووساوسنا وحاجتنا الملخة للحرية ولقول- الأنا - دون خجل – ولا نعوذ بالله من قول الأنا – بل بالعكس إن المشروع الوطني لا يمكن أن ينجح ويتحقق إلا إذا تفخمت هذه الأنا ومارست حريتها )
المرحلة الرابعة (مرحلة الإبداع و التألق ):
هنا تدفق سعد الله ونوس كينبوع راكم مياهه كل هذه السنين فجاءت منمناته التي كتبها عام 1993، وكلما افترس المرض جسده كان يتدفق أكثر وهو يخترق الحواجز والتابوهات الاجتماعية والسياسية ويزداد سيل الكتابة كلما ضاق الصدر بهواء الحياة . أهي صحوة الموت حين علم أن السرطان القاتل يسري في جسده ؟ وهل صار سعد يسابق الموت بالكتابة ؟ أم أنه يريد أن يثبت أن الإنسان لا يبعده عن مشروعه حتى الموت فصار معه في سباق ؟ فجاءت غزارة فكره وقلمه تسمو على الموت وتدحره ؛ ( الكتابة على حافة القبر ! ) فمنذ عام 92 وحتى عام 1997 كتب سعد الله : هوامش ثقافية – منمنمات تاريخية – يوم من زماننا – طقوس الإشارات والتحولات – أحلام شقية – ملحمة السراب – الأيام المخمورة – رحلة في مجاهل موت عابر . أي بمعدل كتابين في العام الواحد . ومن نتاج كتاباته الأخيرة وضحت إفرازات النظام العالمي الجديد وخاصة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، حيث أدرك حينها أن العالم يشهد تهميشا ممنهجا للثقافة بشكل عام وللمسرح بشكل خاص ، كما أكد على ضرورة الاشتغال في المسرح ضمن رؤية جديدة تجعله يجابه وسائل الاتصال التي اقتحمت حياة الناس وهم جالسين في بيوتهم، هذا ما يجعلهم يبتعدون عن المسرح بشكل تلقائي ، لقد أوصانا بالمسرح كأب يترك وصيته الأخيرة لأولاده .
لمحة عن أعمال سعد الله ونوس الأخيرة :
-1 منمنمات تاريخية :
في هذه المسرحية يتألق سعد الله كمفكر يعرف كيف يستحضر التاريخ ويستلهمه واضعا إياه في خدمة المهمة التي رهن نفسه لها كمثقف حر حيث يعري الحاضر من خلال الماضي و حيث تمتد هذه الدلالات عبر النص مع الحرص على الأمانة التاريخية للأفراد الحقيقيين الواردين في النص المسرحي – ابن خلدون مثالا – والذي يوضح لقاءه مع تيمورلنك لأن هذا ما حدث فعلا ومثبت ذلك في مقدمة ابن خلدون .
وهنا لا بد من الإشارة على أن ونوس في هذه المسرحية أكد العلاقة بين المسرح والتراث والأخذ منه بما يحاكي الحاضر ويستشرف القادم ، ففي هذه المسرحية يوضح أن سقوط دمشق بيد المغول كان سببه الفكر السلفي المتعنت وتدخل المماليك بالشأن العربي ،والتخاذل والخيانة ، كما يفضح المثقف الذي يقرأ الأحداث دون أن يتدخل بها، بل يعمل على حماية نفسه من الغازي (ابن خلدون) مسقطاً هذا النموذج على الكثير من المثقفين الحاليين.
-2 – يوم من زماننا :
هذه المسرحية هي تحاكي الواقع الحياتي اليومي والمعاشي إذ تكشف الفساد الذي استشرى في كل المؤسسات التي تشكل واقعنا الاجتماعي , فهي رحلة لكشف الفساد في المؤسسات العلمية والدينية والسلطوية ووضع اليد على الجرح الذي ينزف في الجسد الاجتماعي ولا يكون الضحية إلا الكائن الشريف الذي لا يستطيع أن يواجه الشر ولا أن يعيش في معمعته ، لذا يكون الموت بقرار جريء من الضحية ذاتها، هو الملاذ الأخير ، لقد كان سعدالله في هذا النص قاسياً وفضائحياَ وجريئاًأكثر من أي جراح !!
3 – طقوس الإشارات والتحولات :
مناخ مخيف وفاجع يدخلنا ونوس في عوالمه من خلال هذه المسرحية التي تتداخل فيها المتناقضات ،وتتأرجح الشخصيات ، وتحدث الانكسارات.
نقيب الأشراف يظهر ماجنا ويعلن توبته ويصبح درويشا ، عزت بيك ( الشرطة ) ضحية بين القانون والمؤامرات الشخصية ، يودع السجن بعد أن يقبض على نقيب الأشراف متلبسا بالمجون ، بحجة التجاوز الذي يحاسبه فيه من حرضه على نقيب الأشراف . مؤمنة زوجة نقيب الأشراف شرطها أن تنقذ زوجها من البهدلة هو الطلاق , وبعد طلاقها تعلن نفسها غانية ليمرغ الحكام والسلاطين لحاهم على فخذيها . المفتي يفنى في حب مؤمنة ويرمى عمامته بعد أن عام في بحرها حتى الغرق . العفصة الرجل الذي يظهر ما يخفي ويعلن تخنثه على صديقة عباس فيقبله خليلا ثم يزدريه حتى يقتل نفسه . عباس يصيح قوادا عند مؤمنة بعد أن كان واحد من أزلام السلطة المتمثلة في المفتي .... وهكذا .
في هذه المسرحية استلهم ونوس التاريخ , ولكنه لم يقدم تاريخا , بل تأملا فرديا في التاريخ , إن الشخصيات هنا ليست مقصودة بذاتها , وإنما هي المكونات الثقافية والنفسية للشخصيات . فهم ذوات فردية تعصف بهم الأهواء والنوازع , وترهقهم الخيارات ، حتى تتجلى كل شخصية بذاتها الداخلية معلنة نفسها بلا خجل أو خوف( فليس مستغرباُ أن تثير هذه المسرحية عند عرضها في حلب حفيظة بعض الإسلامويين فيضغطون لإيقاف العرض كما فعلوا مع أبي خليل القباني!!! )
لقد أراد سعد الله أن يقول في مسرحياته الأخيرة عموماً: في هذا الزمن الصعب زمن الانكسارات والهزائم تصبح المدن العربية مستباحة ومفتوحة , وتصبح العروبة مدينة مخترقة . فدمشق تستسلم لتيمورلنك في منمنمات تاريخية .
ولأن الحيف يحتل الإنسان جسدا وروحا يفضل فاروق الانتحار في يوم من زماننا. فاروق أستاذ الرياضيات الذي تداهمه الحقائق الاجتماعية الجديدة ، وتنتهك حرمته فيختار الموت بديلا عن الحياة الزائفة
في طقوس الإشارات والتحولات تتفكك العلاقات،وتتهاوى المناصب ، فإذ هي بقايا حطام ، كل شيء يتهاوى أمام المصالح الفردية ، حيث تلتمع الغوايات في عتماتها ، وهكذا يفقد الجميع كل شيء، السمعة ، المكانة ، والثروة، والمنصب الاجتماعي ....
ولن يبق شيء سوى ذلك النور البعيد الذي أسماه سعد أمل وحََكَمَنا به
إنه زرقاء اليمامة حقاً ، وهو ينتصر دوما لقيم الخير والحق والجمال ، ويحرضنا على التفاؤل رغم قسوة الواقع وفداحته.
المراجع
رابطة أدباء الشام
التصانيف
ادب شعر كتاب