بالواقع ان الأدب وحده يستطيع ان يعيد الخلق لحضور اللحظة المطلق ، ان يعيد الخلق لأبدية اللحظة التي كان ينبغي ان تستمر الى الأبد .. ان الأدب وحده يستطيع ان يوحد ويوفق معا جميع هذه اللحظات التي لا تأتلف في تجربة انسانية .. الفن الحقيقي هو الفن المنطلق من خلال المسائل الأساسية التي تحدد علاقة الفنان بنفسه وبالعالم الخارجي بما فيه من زمان ومكان ومشكلات وأحداث ، وبتجاور هذه الحالات وتعاملها مع العالم الداخلي للفنان يتحدد الموقف الفكري الواضح بأعتبار العالم الداخلي المصفاة التي يبلور هذا الموقف وتعطيه هويته وأبعاده .. ليس بالأمكان فصل اي فن عن قضيته كما يؤكد الناقد المجري – لوكاتش – والفن المجرد من القضية هو فن شكلي فاقد المضمون – فن بدون روح – اذ كل موقف يتضمن بطريقة أو بأخرى العالم كله .. لا يعني اننا نعرفه ولكن يعني اننا نعكسه .. اننا نختصره او اننا نعبر عنه بالطريقة التي كان يتكلم عنها – ليبتز – في التعبير عن العالم .. ووحدة العالم هذه التي نعبر عنها والمواقف التي نتخذها .. هذا ما يحدد اهم ما يوجد في الوضع الأنساني وفي العلاقة بين الأنسان والعالم .. ان الكلمات اذن تناضل ضد الزمن وضد الموت وهي تناضل ايضا ضد الفراق وكما قالت –سيمون دوبوفوار-" كل اديب قد وصل الأدب بطرق مختلفة جدا ، ولكنه لم يكن احد ليكتب لو لم يكن قد عانى بطريقة أو بأخر - الم الفراق – واذا لم يحاول بطريقة ما ان يكسره " .. والأدب يصبح مستحيلا ، عندما نقع في يأس مطلق ، ما دام اليأس يعني عدم الأعتقاد بوجود اي ملجأ .. ان الفن الحقيقي هو الذي يعكس الحياة بكل تناقضاتها وصراعاتها وانتصاراتها وانكساراتها وحبها وبغضها وكل مظاهر ابداع انسانها .. الفن الحقيقي هو الذي يرفض الزيف حول الحياة .. يحدثنا الشاعر عبد الوهاب البياتي في كتابه – تجربتي الشعرية - " ان النفي والغربة اذا ما طال بهما الأمد قد يلقيان بالفنان في رحابة ارض خرافية .. وقد تستحيل العودة منها ابدا ، بل ان اشواق الحنين للعودة منها لتبدو ساذجة امام الأعماق البعيدة التي غاصت اليها روح الفنان .. وقد يظل الفنان يتنفس رائحة الموت الذي هو غربته حتى بعد عودته . من هنا فمن اراد الشعر اختار المنفى وطنا .. بأعتبار ذلك المنفى الحالي وطنه المستقبل " .. اذن الشعر هو صورة الأنسان . فالبياتي يرف بجناحيه الى الألتزام الموضوعي " للانسان " فمنه يهب الكلمة انفعالها ومنه يحظى بحرارة هذا الأنفعال ويحصل على التجاوب المدفون بين ذاته العميقة التي تتخلل اغواره وانسيابه المثقل برزانة الشوق لهذا الأنسان الحقيقي ... تمتد تجربة الشاعر الفلسطيني – محمد الأسعد – منذ مجموعته الشعرية الأولى " الغناء في أقبية عميقة " والتي كان فيها شاعرا غنائيا .. تلك الغنائية التي تجذبك اليها بقوة فهي ذات حيوية مليئة بروح الحركة والأمل .. الى مجموعته الشعرية الثانية " حاولت رسمك في جسد البحر " والتي يجسد اشعاره بأحاسيس صادقة وبرؤية واضحة للواقع . والممتدة الى مجموعته الشعرية الثالثة " لساحلك الأن تأتي الطيور " والتي يعبر فيها عن آلم الغربة والفراق والرحيل والصمت والمجسدة بأحساس عميق لمأساة الوجود ...
ـ الوطـن الرمـز والحـس التـأريخي ـ
يتجسد الماضي بعبقه التأريخي حاضرا وغائبا ، صامتا وناطقا ، شخصية تنتمي الى مدينة ، تأخذ خصائصها وتعيش قدرها ، تدمن على دروب الشوك وتتشبث بالأرض وتنظر الى الشمس والنجوم .. وتعيش زمانها اقتلاعا ونفيا وسجنا .. ( سنبدأ – حشد من الطير والزهر والطرقات القديمة يرحل فينا / نقيم كنائس للجسد المستفيق فيأوى الضباب اليها / وتأوي الحقول المبادة / نوصي بما اودعتنا العصور من الثمر الجاهلي / لحشد من النسوة الوثنيات / نموت على العشب والطرقات /يسيجنا انين وترحل عنا الطيور ) "لساحلك الأن تأتي الطيور" 13.. يعيش تأريخ الأرض وينصهر في نبضها فتمنحه الصبر والوعي والتصدي ، يحمل في ذاته عبق ماض رائحته ، فيموت واقفا تاركا لغيره ذراعا وظفرا تدفعان من جدول الماء ودوحة الخضرة وظلال زيتون عميق الجذور .. يتحدث الشاعر عن مرارة الرحيل وعسف الأضطهاد .. كثافة الحلم وتضاريس الزمان .. عن ثمن الأبتسامة ، فأقترن المطر في شعره بكل حبة عرق وقطرة دم وذرة غبار اتية من أرض فلسطين .. ( نسي الشاعر فوق سرير المنفى / اصوات الماء/ وبلله المطر الشاحب في المنفى / من اين يجئ الشاعر يا صوت التعب ? / من اين يجئ السهر الأبدي / حلمت بانك ساهرة بين سنيني / روضة قداح تزهر تحت الأقمار الثلجية / أغنية/ هل تعرف أحزانك ، صمت البحر/ ) حاولت رسمك في جسد البحر " .. هذه التضحيات متمثلة في بعد الشاعر عن وطنه ، فوطنه موجود بداخله على مستوى الواقع والتاريخ والأسطورة والحلم والمستقبل .. وتحمله اعمق انواع الغربة واشدها ايلاما ، هي غربة الشاعر في عالم الشعر . ( كان يقرأ شعرا كثيرا / ويبكي زمان الرحيل / والرمال النبية / ثم يضحك من حبه المستحيل / ثم سافر.. / قالت تحدث عنه الحدائق / كان غصنا يحن الى اصله / كان حنجرة مغلقة / نصفها يملأ الحلم والنصف تملأه زهرة / البرتقال .../ ) الغناء في أقبية عميقة .. فمن اراد الشعر اختار المنفى وطنا لا بديل له وأختار الموت والولادة في نفس الوقت كوجهين لنفس الشئ بأعتبار ذلك المنفى الحالي وطن المستقبل .. هكذا يتسع المنفى ليحتوي واقعا رهيبا ، ويختفي صوت الشاعر وراء الصورة الواقعية الرهيبة لتعاسة اللاجئين تاركا للقارئ وحده ليقرر موقفه من هذه المأساة .. من هذه الأبيات نلمس حرارة الجوع والمنفى .. وفي زحمة الرصاص والموت على قمم الوطن يضع الشاعر حدود الوطن القادم في زحمة الأشياء ويحدد ملامح هذا الوطن – العشق – فيفتح بابا للمنفيين .. ( ترسمت خطو الزمان اشتهيت تناسخ خطوي / ووجه المدينة زهر النحاس / وليل المدينة شباك حلم وطفل / يقود خطاه النعاس / هو الموت في لحظة / واشتباك الدقائق عبر المنافي / ترسمت خطو الزمان القريب القريب / سقطت وراء الجدار وكررت موتي / اتدري الرياح بما اودعتها العصور احتميت / من الرعب كانت تمد خطاها الدقائق والضوء/ ) الغناء في أقبية عميقة .. وفي شعر " الأسعد " نلتقي بحس تأريخي واضح " فالأسعد " قد دفعته المأساة الى ان يلتفت الى التاريخ ويقرأ صفحاته المختلفة ، ولعل احداث التاريخ تقدم اليه اضواء تكشف له سر مأساته .. فالشاعر عاشق لا يودع عشاقه بل يستقبلهم خطوة وطلقة وشهيدا . ( انصت للشهداء المغمورين يدقون جدار الوطن المفقود طيورا / الهة خضراء/ انصت للثورات تموت / وللشاعر يستبدل اوسمة ملكية // بوصايا الأطفال الموتى / انصت للرمل يفيض / يغطي النار/ الطرقات / الشجن / الأحداق المبهورة للشهداء / ) حاولت رسمك في جسد البحر .. وقد بدأ الشاعر متمردا في بعض قصائده .. ويتكامل له تصور عام عن طبيعة الوجود وتنكشف امام عينيه من خلال التجربة المعاشة ..( لهذي السماء بياض الحجار / لهذا الخضار نشيج / لصوتك دهشته / أين ترحل هذي الدماء / متى يوقظ الأحمر الأخضر المستحيل ؟ / لساحلك الأن تأتي الطيور / القواقع / يبني الفضاء ممالكه / ) لساحلك الأن تأتي الطيور) ..
ـ التـفاؤل والأرادة ـ
من صور الحزن واليأس والألم المسيطرة على قصائد ه السابقة تظهر الصورة المرتبطة بالأمل والفرح .. يستخدم الشاعر الرموز .. يتجسد الأمل في عودة الأرض الى الحياة .. انه في اغلب قصائده يبدو مع اختلاف من قصيدة الى اخرى غنائيا .. ممتلئا بالهموم البيض .. يبدو صافيا دون قتامة أو تشتت عميق ، ان بعض قصائده يأتي هادئا وخاليا من ايما قلق كبير .. والشاعر حين يستخدم النموذج الأصلي وهو اعلى مستويات الصورة الرمزية يتحدث بصورة اقوى من صوته ويرتفع بالفكرة التي يعبر عنها فوق مستوى الوقتي والعرضي الى مستوى الأزلي والأبدي ، انه يرقى بالمصير الفردي الى القدر الأنساني وهذا هو سر الفن العظيم .. كل بيت بمفرده يعرض صورة جميلة الرسم والأيقاع ، فالشاعر اذن يرسم لنا مشهدا مثيرا لأنفعال الحزن ، مشهدا يضلله الغناء المتوقع بين لحظة واخرى ، ويشعر ان هذا الأنفعال الذي خالج نفسه وهو يعاني هذه التجربة الشعورية ..( سأذكر ظلا لزيتونة غادرتها الحمائم /نهرا من الشجر الأخضر الأن يرحل نحو البلاد / سأذكر شعب يقاتل كل العواصم / بين الحريق / وبين الحريق/ يقيم لأطفاله وطنا / وتفتح أسوارها مدن الله والعشب / يخرج من عتمات الأزقة سيل من الفقراء / أقلت بأنك تأتي ؟/ لصوتك طعم الصدى / قادم / ذاهب / جارح / في قرار الفصول / ) .. من هنا ارتبط الشعر بالنبوة في التراث الأنساني ، لأن الشعر كالنبوة قوامه الرؤيا التي تنفذ عبر مظاهر الواقع الى الحقائق الجوهرية في الوجود .. فالرؤيا التي تصل يالشاعر الى اللامحدود فهي خلق للحقيقة .. من هنا نلاحظ روح البساطة والعفوية الرائعة التي تفجر فينا شحنات الغضب المقدس وتجعلنا نهتز لصدق العواطف واصالتها ، كما تجعل قارئها يحس بجمال اللغة البسيطة الألفاظ والتراكيب وقد احالها الشاعر فنا رائعا .. (وكان الشعر يحولني / في لحظات الصمت نبيا /يتشرد فوق جسور العصر / وكان الشعر حريقا تتساقط فيه جذوع الأيام/ وددت لو اجتمعت كل الأنهار بقلبي / لو عرف القمر الشبحي ممالك أخرى يتألق وجهك فيها / ).. فقد طال الأنتظار .. وقد حان الوقت ان ترفعي عن عينيك ما يحجب الرؤيا فهذه الشمس بدأت تغيب ، فلا تحزني فالحزن يحجب الرؤيا ... وقالو لك مع شروق الشمس نأتي ومعنا الفرح .. فلا بد ان يأتو ، لأن الغروب ليس هو النهاية ...( الليلة تفاح/ شجر يتندى في الليل / تعالي / نستيقظ تحت الليل / نفتح نوار الليل / ونحبس انفسنا / ما بين النعنع والليل / قميصك ورد / ورد صوتي / والليل طيور / تستفرد بالنهر النائم ما بين النهدين / وتغوي/ ).. ان من تجوز تسميته بالشاعر العربي الحديث هو الشاعر الذي ادرك حتمية ارتباط الفن الشعري بالبناء الحضاري ، ووعى هوية حضارته العربية وعانى ازمة انحطاطها وكان صاحب موقف واضح وراسخ من التحديات التي تواجهها هذه الحضارة .. وابرز مميزات التجربة الشعرية للشاعر هي ابتعادها عن الذاتية المغلقة التي حددت القصيدة الرومنطيقية وانطلاقها للتعبير عن قضايا الحضارة الأنسانية ... الا ان " محمد الأسعد " اكسب تجربته الشعرية الأسطورية بعدا حضاريا واسعا .. وفق منظورات الواقع وتطوره التأريخي ، ويمثل بالنسبة اليه عالما حيا مليئا بالتجارب والمعاني المكثفة بلغة تأريخنا العربي ..
ـ الرؤيـا المسـتقبلية ـ
يؤكد احساس الشاعر " محمد الأسعد " بأن ما اصاب وطنه ليس هو الصورة النهائية والأخيرة للمصير العربي ، بل ان المستقبل يحمل مصيرا عادلا يعيد الحقوق الى اصحابها ، والشعب الذي سقط سوف يقف على قدميه ، والظالمون سوف يدفعون الثمن وسوف يكتشفون فداحة خطئهم وجريمتهم ..( دعينا نثق بالرجوع / فما مر يوم وكان قريبا / أليفا / وما مر يوم بهذا الحنان / وهذا التوحد / ما مر يوم بهذا التساؤل / والحب/ ما مر يوم كهذا الجنون الجميل / على طرف الليل / والغمر/ حيث السكون الطويل / وحيث اقتراب التوهج والأحتفال / ). . ويبدو " الأسعد " في كثير من قصائده وهو يعيش في المستقبل كما يراه ويؤمن به ، ويرى ان هذا المستقبل مملؤ بحلم الحرية والخلاص من كل العقبات حيث انه يرى العقبات والمصاعب والمأساة فينفجر غضبه شعرا عنيفا حارا .. ( / كنت أحدث عن ايام التعب الأبيض / في الأنفاق السرية / عن شهوات الصحراء الملجومة / أحلم انك بحر / يتدفق في خلجلن الروح / يمد يديه الي /يتابع أحزاني العالية الخضراء/ ) حاولت رسمك في جسد البحر". .اذا كان " أدونيس " في " زمن الشعر " قد اعتبر الشعر الجديد رؤيا ، والرؤيا " قفزة خارج المفهومات السائدة "تغيير في نظم الأشياء وفي نظام النظر اليها .. فالزمن ليس مفهوما تجريديا بل العكس فأنه الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود ، الأشياء الأكثر لمسا .. الزمن هو العامل الجوهري في العمل الفني . ان الكلمات مواقف .. يتضمن مفهوم الرؤيا اعادة النظر أصلا في هذا العالم . حينما يبتعد الأنسان عن الأرض بسرعة الضوء فأنه يعيش أحداث تأريخ العالم خلال لحظات قصيرة جدا ، بالأفتراض الى ان هذه السرعة ستبقى عظيمة ومقتربة من اللانهائي .( / ترسمت خطو الزمان اشتهيت تناسخ خطوي / ووجه المدينة زهر النحاس / وليل المدينة شباك حلم وطفل / يقود خطاه النعاس / هو الموت في لحظة / واشتباك الدقائق عبر المنافي / ترسمت خطو الزمان القريب القريب / سقطت وراء الجدار وكررت موتي / ) الغناء في أقبية عميقة " .. من هذا ان البعد الزمني عند " الأسعد " كان الحاضر مع الأمتداد المحدود في المستقبل .. والبعد الزمني عند الشاعر كان المستقبل والأمتداد اللانهائي فيه .. من حق القلب ان يبكي متمردا في بكائه وآ ساه .. لكن الشاعر يستطيع رغم كاّبة الحاضر وضياع الماضي ان يمد جسرا الى المستقبل ..( / كالرغبة الأولى التي / تضغط سرا جارحا / تستيقظين ملْ صوتي / انه المساء / مطرقة تدق في بط ْ / غدا .. غدا / غدا .. غدا / الى ان تعجن الذكرى / ويستحيل بعدها البكاء / ) الغناء في أقبية عميقة " . فغناء " الأسعد " الشعري يرتفع فوق القمم والقصيدة عنده ذات معالم تتواشج فيها المشاهد العديدة ، والصور والرمز بكل تفجره ودلالته . كما ان تعامله مع الرمز يرتكز الى وعي يستمد منه ديمومته وحضوره الفعلي فوق الساحة العربية على المستويين الفعلي والشعري . ان الأحزان الفلسطينية لم تعد احزان الخارجين من البيوت ولا هي احزان المفجوعين بفقدان الوطن بل هي اكبر ، اذ انها تكمن في المسافة الفاصلة بيننا وبين انفسنا .. بيننا وبين وجوهنا وقلوبنا وبين عودة العصافير للغناء .. ان شعر " محمد الأسعد " يتصف بقدر كبير من الصدق الفني ، الذي يتميز برؤيا حضارية متطورة وبلغة غضة طبيعية .. يمتلك " الأسعد " تأريخ شعري عريق ، سماته الشعرية الخاصة وموقفه الأبداعي المتفرد الذي تستمد منه قصائده المرونة والصفاء والتأجج .. فشعره جزء من التطور الشعري الذي اخذ في الأونة الأخيرة يحتل مواقع شعرية جيدة وجديدة .. واذا كان " مايكوفسكي " قال مرة ( الشعوب تعرف ان الحق موجود ، وترى اين يقف هذا الحق ) فأن " محمد الأسعد " عرف بجدارة وثقة هذا الحق ، وعرف كيف يناضل من اجله عبر الحرف والكلمة .....