كيف نريد ألا تنحسر اللغة العربية عن حياة أجيالنا الصاعدة، بينما  كل الأجواء المحيطة بهم تهوّن من شأنها، أو تدفعهم دفعا للهيام بغيرها، بقصد أو بدون قصد.

 

كان العرب يرسلون أبناءهم منذ نعومة أظفارهم إلى البادية لتعلم الفصاحة والبلاغة وسماع اللغة العربية الصافية وحفظ أشعارها ، فتنشأ لديهم السليقة، بينما نفخر بإرسال أبنائنا إلى المدارس الأجنبية في سنّ الروضة.

 

وفي مدارس التعليم الأساسي والثانوي ببلادنا العربية يفسح المجال للغات الإفرنجية ( الانجليزية والفرنسية) لتكون لسان التعليم على حساب العربية التي أصبحت غريبة الوجه واللسان في أرضها وبين أهلها، ويستمر الحال على هذا المنوال إلى الجامعة التي أصبح الدخول إلى الكثير منها بدون "توفل"  متعذرا.  
إن تعلم وإتقان اللغات الأجنبية مطلوب وضروري، خصوصا في ظل تخلف أمتنا عن الركب الحضاري، شريطة  إلا يكون ذلك على حساب لغتنا الأم.

 

ويتسع نطاق غربة أجيالنا المعاصرة عن لغتهم الأم في إحدى تجلياتها، باعتماد "خلطة" غريبة تجمع بين العربية والانجليزية بآن معا، في حديثهم المتداول فيما بينهم ، أوعند تعرضهم لذلك في حياتهم العامة أو عبر ما تنقله وسائل الإعلام إليهم  والتي أطلق عليها مجازا " العربيزي".

 

ويرتبط استخدام هذه الخلطة العجيبة في ذهن المتحدثين بها بالعصرنة والمباهاة والتعالي عمّن حولهم، زعما منهم بأن اللغة الأجنبية هي لغة الحداثة والرقي والعلم، فيما حال العربية بات قاصراً عن مواكبة تطورات الحياة ومستجداتها. 

 

ويستمر زحف  " العربيزية" أو "الفرانكو عربية" الخطير على حاضر ومستقبل لغة أجيالنا بانتقالها  من المنطوق إلى المكتوب، ارتباطا بظهور الكمبيوتر والبرمجيات ، ثم الانترنت والتواصل الالكتروني الكتابي عبر المنتديات وغرف الدردشة وشبكات التواصل الاجتماعي و" الماسنجر" ورسائل الهواتف المحمولة خصوصا أن أكثر المستخدمين لذلك هم شريحة الشباب، حيث يكتبون العربية  بالطريقة " العربيزية".

 

و" العربيزية" المكتوبة  باختصار هي كتابة الكلمات العربية باستخدام الأرقام والحروف الإنجليزية، حيث تستخدم الأرقام من 1-9 للتعبير عن بعض الأحرف العربية التي لا وجود لها في الانجليزية، كـحرف الخاء الذي يستخدم عوضا عنه الرقم 5 ، ورقم 6 للتعبير عن حرف الطاء ، و7 عن الحاء وهكذا ، أي أننا لو أردنا أن نكتب كلمة ( عرب ) بـ " العربيزية " مثلا فستكون : (rb3 ).

 

ومع التنامي المخيف لهذه اللغة الهجينة ثمة قلقجدي لدى الحادبين على لغة العروبة والقرآن من أن تجد نفسها أمام  أجيال تجد صعوبة بالغة في التعاطي مع لغتها الأم  شفاهة وإملاء ، فضلا عن التذوق والتدبر .
ويدخل على خط غربة الأجيال عن لغتهم العربية ما يتصل بطريقة التفاهم والحديث  مع العمالة الآسيوية ، والتي صار لها قوالبها وتراكيبها العجيبة ، وتحديدا مع الخدم والسائقين الذين تتعامل معهم الأسر بكل مكوناتها بمن في ذلك الأطفال والناشئة بشكل مباشر ومكثف.

 

إن هذه اللغة ـ إذا جاز تسميتها كذلك ـ هي الأخرى "مكسّرة" تشوبها مفردات غير عربية ، وتراكيب غير منسجمة تسيء إلى جمال لغتنا العربية النقية الصافية، والحجة التي تساق لتبرير هذه الإساءة ـ وإن كانت غير متعمدة أو مقصودة ـ  تسهيل إيصال رسائلنا الشفوية إلى هذه العمالة ، رغم أن الحديث بلسان عربي قويم لا يمكن أن يكون عائقا دون فهم متلقٍ يفترض أنه يتعلم لغة جديدة عليه أو يصعِّب من عملية التواصل معه.

 

ولا يتوقف الخطر عند هذا الحد، فثمة  ما يزيد من غربة أجيالنا الصاعدة عن لغتهم، لغة الضاد  ويفاقمها، بسبب تفشي استخدام المحكية ( العامية) باعتبارها اللغة الرئيسة لتواصلهم اليومي، والمعتمدة لديهم في جميع مناحي الحياة على حساب العربية الفصحى ـ كحال كبارهم ـ  حيث لا تستخدم الأخيرة إلا في مجالات ضيقة.

 

وتبعا لذلك تبدو الفصحى لدى الأطفال والناشئة نغما نشازا عندما يسمعونها أو يريدون التحدث أو التواصل أو التدوين بها ، طالما أنهم منذ أن فتحوا عيونهم على الدنيا يسمعون المحكية في المحيط الذي يعيشون به: الأسرة ورياض الأطفال والمدرسة، ووسائل الإعلام التي يتسمرون أمام المرئية والالكترونية منها لساعات طويلة، فيما ينحصر تعاطيهم مع الفصحى في تواصلهم المحدود مع معلميهم ومع القليل مما يتابعونه من برامج إعلامية.

 

ومن الصور المؤلمة  المترتبة على هذا الواقع المحزن أن الجيل الشاب الذي يلجأ إلى العربية في كتابته عبر الهاتف الخلوي أو الانترنت ـ وليس اللغة الأجنبية أو العربيزية أو الفرانكو عربية ـ يدوّنها بالمحكية وليس بالفصحى ، مع ما يترتب على ذلك من ضحآلة  المفردات اللغوية وضعف المهارات الإملائية، وتردي الملكات التعبيرية لديه.

 

ورغم ذلك فثمة مبادرات تستحق الإشادة والتقريظ كونها تصب في خانة إعادة الاعتبار للغة العربية الفصحى والغيرة عليها،  موجهة للأطفال والناشئة والشباب، أو نابعة منهم، رفضا لسيادة ما سواها "عامية" أو أجنبية، إلا  إن هذه  النماذج وغيرها ـ وهي قليلة ـ لاتتناسب مع حجم اغتراب أجيالنا عن لغتهم الأم  الذي وصل حدّ تهديد الهوية ، وحجم التحديات الكبيرة التي ينتظر أن تواجههم على هذه الطريق خصوصا مع التطور المتسارع لوسائل الاتصال.

 

تحتاج الأمة إلى أكثر من ذلك.. إلى حملات وطنية على مستوى الأقطار العربية تشترك فيها الأسرة والجهات التربوية والإعلامية والدينية والشبابية في إطار تكاملي لإحياء العربية الفصحى في واقع الأطفال والناشئة والشبيبة وتحبيبهم باستخدامها والتواصل بها، وتذوقها ، وتبصيرهم بقيمتها ومكانتها، باعتبارها هوية الأمة وأعظم مقومات وجودها ، وحاضنة تراثها وثقافتها، والابتعاد عن فرضها عليهم، بقرارات فوقية، ومعالجات حماسية غير واقعية أو عملية. 

 

الحديث عن المبادرات والحملات والتي تحتاج إلى أنشطة عملية وفعاليات تطبيقية قريبة إلى قلوب ووجدان الأطفال والناشئة والشباب، هي بيت القصيد، وهي تحتاج إلى مقال آخر ، بل إلى مقالات أخرى نأمل أن نقوم بتناولها قريبا بإذن الله.

 

بقلم: علي الرشيد


المراجع

sharq

التصانيف

شعر  شعراء  أدب