فرانكشتاين في بغداد
مخيلتي ما زالت تتوجع من قصة قرأتها في سنتي الجامعية الأولى ببغداد خريف 1990م. جندي عراقي بائس على جبهة خط النار مع إيران بحرب الخليج الأولى. تُسند له مهمة أن ينتقي من الأشلاء البشرية، التي يكدسونها أمام ثكنته، ليشكل إنساناً كاملاً قبل زجه في كل تابوت.
كان عليه أن يتقن عمله، وأن يوفّق بين الأشلاء من حيث لونها وحجمها وطولها، فمن المفروض أن تعود التوابيت إلى أهلها ملفوفة بالعلم، مكتملة النصاب من أشلاء هتكتها القذائف وخرقها الرصاص. وعلى كل تابوت سيعلق قلادة رقم عسكري لجندي مات. ياااااه. أيةُ ندوب وكروب تتركها فينا الحروب؟؟
.
تجدد وجعي وأنا أقرأ رواية (فرانكشتاين في بغداد) للعراقي أحمد سعداوي، والتي وصلت للقائمة القصيرة بجائزة البوكر العربية. بطلها شاب عراقي يدعى (هادي العتاك)، يسكن في حي البتاويين الشعبي وسط بغداد.
أحداث الرواية تدور خلال موجة عنف 2006، فيمعد هادي لجمع الأشلاء المتروكة على الأرصفة والشوارع لضحايا طايرتهم وشتتتهم التفجيرات والمفخخات، وفي بيته المتوضع كان يلصق الأجزاء بالخياطة، حتى حصل على كائن غريب لا ينقصه شيء، فغافله ونهض؛ ليقوم بعمليات ثأر ضد المجرمين، الذين قتلوا أجزاءه.
الرواية خيالية وفنتازية ومؤلمة، لكنها تؤشر لواقع أكثر ألمًا وخيالاً وفنتازيا يعيشها العراق. وربما تذكرون رواية (فرانكنشتاين) للمؤلفة البريطانية) ماري شيلي( الصادرة العام 1818م، عن طالب ذكي صمم مخلوقاً مسخاً، عاث فساداً في العالم. وقد أعدَّ عن هذه الرواية أكثر من فيلم سينمائي.
بالطبع (هادي العتاك) تاجر الخرداوات والأنتيكات، لم يكن ذكياً، لكنه كان حساساً يتألم، ويأبى أن يترك الأشلاء نهباً للطرقات والعراء. ويتألم أكثر كلما حدث الناس عن كائنه العجيب الهارب، والذي سماه (الشسموه)، أي الذي لا يعرف له اسماً، تماماً كالموت المبثوث الآن في أرض السواد العراق. وكأننا نصيح مع بدر شاكر السياب بقليل من التحوير: يا خليج يا عراق ما مرّ عليك عام ليس فيه قتل أو نجيع.
يوم أمس يتجدد (الشسموه) وهذه المرة في مدينة بابل، فالصهريج الممتلئ بالمتفجرات شتت أشلاء أكثر من خمسين إنساناً، سيعجز عن لملمتهم ذلك الجندي في رأس القصة، وسيعجز عن إيجاد أية قطعة تصلح لكائنه الذي نهض ليثأر.
أي (شسموه) يعيشه العراق. وأي مجهول يجول فيه. وأي شسموه سيقوم ويثار لكل الذي ما زالت أشلاؤهم خلْطَ الترابِ ونثرَ الشوارعِ والأرصفةِ. الله يا عراق.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة رمزي الغزوي جريدة الدستور
|