على الأرجح أن من ينجو بوعيه وتماسكه في هذه الأيام سيكون من المحظوظين، وسيتاح له ان يروي ما سمع ورأى لأحفاده إذا لم يتلف الزهايمر ذاكرته، فما يجري الآن في العالم كله وبالتحديد في هذه المنطقة المنكوبة تتراوح فيه كل المتناقضات، ولا يخضع لأي منطق أو عقل، وكأن كل ما قرأه الناس أو حلموا به ذهب في مهب العواصف، فالشمس تشرق من اية جهة غير الشرق الآن، وان كانت تغرب فيه وحده.

وما قيل ان جدلية التاريخ وحتمياته بقيت طي الكتب على الرفوف التي غطاها الغبار..

الآن لا نعرف ما الكثير وما القليل وما العريق وما الطارئ، فالفيل ادخل من ثقب ابرة، وقافلة الجمال كلها يقودها حمار..

وأذكر أنني رأيت في طفولتي قافلة من خشب الزيتون تباع في شوارع القدس وكان بالفعل قائدها حماراً من خشب غير متقن الصنع، وكان يشبه فأراً.

خطوط الطول أصبحت خطوط عرض في تضاريس أعيد رسمها بالفحم تارة، وبالطباشير تارة اخرى، أما خط الاستواء فهو في كوكب آخر.

حتى البحار لم يعد أحمرها أحمر وأسودها أسود ولم يعد أبيضها أبيض أو متوسطاً وثمة أنهار جفت ولم تعد تكفي لغسل ميت مقابل أنهار عادت الى منابعها لأنها لم تجد المصب

في الغرب بخاصة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين ظهرت تيارات فلسفية وفنية تبشر بموت العقل، ولا ترى فيما يحدث الا عبثاً ومشاهد لا معقولة، منها الدادائي والسوريالي، لكن أيامنا العربية رغم وقارها الثقافي وما تنعم به من تدجين عقلي شهدت ما هو أكثر من الدادائي والسوريالي..

لكن من تولى الجنون نيابة عن فنان مثل سلفادور دالي الذي قرر ذات يوم ان يفتتح معرض رسم وهو محمول على ظهر تلاميذه في تابوت هم جنرالات وساسة وأباطرة من عجين وورق، ومن حق من بقي على قيد الوعي ألا يكف عن شكر السماء وكل ما أتاح له ذلك، ومن لم يشربوا بعد من نهر الجنون قد يموتون من الظمأ لأنهم لا يملكون إبلاً يبقرون بطونها كي يشربوا.

الكبير الآن هو الصغير، والقوي هو الضعيف والقديم هو الطارئ والعابر هو المقيم، اما القصدير الذي غمره الصدأ فهو الآن يخرج لسانه الأسود للذهب ومناجمه.

ويعود الفضل لنا نحن العرب بإعادة صياغة واحدة من أهم أساطير الاغريق هي أسطورة ميداس الذي كان يحول أي شيء يلامسه الى ذهب حتى مات من الجوع لأن الخبز أصبح ذهباً وكذلك اللحم والمرق والخضار وحتى الماء..

صياغتنا القومية الجديدة لهذه الاسطورة معكوسة فميداس العرب الآن يلامس الذهب فيحوله الى صدأ، وإن لامس الماس حوّله الى فحم وهكذا حول الكثرة الى قلة والمزايا الى عيوب وبدد من الثروات بسفاهة نادرة ما يكفي لتحويل هذه الارض بربعها الخالي ايضاً الى جنة بسعة امبراطورية ومحروسة من كل الجهات.

بعد الآن ليوزع الحلوة ويحتفل أشخاص آخرون غير الناجحين في الثانوية الشاقة والفائزة بالجوائز وأعلى المراتب الاكاديمية.. وهؤلاء هم من لم يفقدوا رشدهم حتى الآن


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور