منذ عامين عاد الشارع العربي الى ما انقطع عنه بعد حروب الخليج الثلاث لتكون السياسة وشجونها في مقدمة السجالات اليومية بدءاً من دوائر الوظيفة والمقاهي حتى صالونات السياسة ومقرات الأحزاب، واذا كانت حروب الخليج وخصوصاً ثالثتها قدمت ثقافة عسكرية للشارع بديلاً عن الخبرة في هذا الميدان فان الحروب الاهلية وشبه الاهلية خلال العامين الماضيين قدمت ثقافة جغرافية فمن لم يكن يسمع بأسماء مدن وقرى في تونس ومصر وليبيا واليمن ومصر وأخيراً في سوريا أصبح يعرفها من خلال القصف وعدد القتلى والعمليات العسكرية، ولا ندري ما الذي يحمله لنا الغد من مفاجآت كي نرمم النقصان في ثقافتنا التاريخية، فما هرّب من المتاحف وما تحول الى أطلال وخرائب من الآثار خصوصا في سوريا لم يخضع بعد لحاسوب، فالناس منشغلون في دفن موتاهم ولا فائض لديهم من رفاهية الوقت لاحصاء ما دمر من بلدانهم وآثارهم التاريخية.
فهل كان العربي بحاجة الى حلف الناتو كي ينوب عن مدرس الجغرافيا والتربية القومية ليعرف تضاريس بلاده، وهل تجاوزت ثقافة الطيارين الاسرائيليين والأمريكيين والفرنسيين والانجليز ثقافة العربي بكل ما يتعلق بهذه الجغرافيا الأرملة؟
ان من يتباكون الآن على المتاحف والآثار يجهلون أن اهم آثارها في هذه المنطقة المنكوبة بثالوث الجهل والمرض والتخلف نهبت خلال القرنين الماضيين. وقد اخبرني الصديق الراحل جبرا ابراهيم جبرا الذي أقام عقوداً في بغداد ودفن فيها ثم قصف منزله على ما فيه من لوحات وكتب ان الفلاحين كانوا في اربعينات القرن الماضي يسخرون من الانجليز وهم يجرون الحجارة في الماء.. ولم يدركوا انها ممهورة بتواقيع اجدادهم وانها ستصبح شهوداً من حجر في ميادين عواصم اوروبا.
من نهب المخطوطات هو من نهب الآثار، والآن يقول لنا انه يندم على ابقاء أي أثر في بلدنا لأننا لسنا أمناء على ما ورثناه، فقد أحرقنا مكتبات ومراكز أبحاث وآلاف الوثائق والمخطوطات ونهبنا بأيدينا متاحفنا بعد أن تبعثرت احشاؤها في الشوارع ومن يدري لعلّ الدور يأتي على أبي الهول والاهرامات وكل المسلات والزقورات الباقية على طريقة طالبان وتعاملها مع تماثيل بوذا، ومن غطى وجه تمثال أم كلثوم بحجاب رغم انه من حجر لا ندري متى سيُقطَع رأسه كما حدث قبل أسابيع للمعري في عقر داره وعقر سجنه وأخيرا في عقر منفاه
الآن تعود الثرثرة السياسية في المقهى والبيت وعلى الارصفة ليصبح الأمي حتى في ادارة أزمات بيته جنرالاً، يقارن طائرة الفانتوم بطائرة الميراج ويتبنأ بمصير دول وأحزاب وثورات.
انها ثقافة عسكرية موسمية، يفرضها الآخر الغالب على المغلوب، لأن المغلوب منذ تأقلم مع هزيمته تفرغ لبناء البيوت والمولات وصار من زبائن البورصات رغم أنها سحقته في أزمة لم يكن له فيها ناقة أو بعير. وبعد عام أو اثنين قد تهدأ الثرثرة، وعندئذ لن يجد الجنرال الخائب من يكاتبه أو حتى يهاتفه كما في رواية شهيرة لماركيز | |
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور
|