أ – التعفن
1- أسباب التعفن (الالتهابات)
في عصر لم يكن فيه المجهر معروفاً أدرك الأطباء العرب بالعقل وجود جراثيم وأنها سبب في العدوى والتهاب الجروح فقد ذكر ابن خاتمة في القرن الرابع عشر "أجسام صغيرة تحدث الأمراض.
ويذكر ابن المجوسي وهو من أوائل الأطباء العرب الذي كتبوا في الجراحة وتوفي عام 984م "وحول تغييرات الهواء من قبل البخارات فإنه من كان تعاملهم ومكان سكناهم في مواقع فيها آجام ونقائع (المستنقعات وبقول وأشجار عفنة) والقعود في المغاير والبيوت العفنة، الأنفاق والأسراب وغير ذلك مما يتحول إلى الفساد والتعفن فيحدث الأوبئة والأمراض الوافدة ويعفن الهواء ويفسده، مشيراً إلى أن أهل تلك المواقع كثيروا الأمراض والحميات العفنة تكثر فيهم وتكون ألوانهم متغيرة إلى الصفرة، ولا يستمرئون الطعام جيداً فيكونوا ضعفاء.
ويقول ابن سينا "وكما أن الماء لا يعفن على حال بساطته بل لما يخالطه من أجسام أرضية تمتزج به وتحدث للجملة كيفية رديئة، كذلك فإن الهواء لا يعفن على حال بساطته بل لما يخالطه من أبخرة رديئة تمتزج به وتحصل للجملة كيفية رديئة، وربما كان ذلك بسبب رياح ساقت إلى الموضع الجيد أدخنة رديئة من مواضع نائية فيها بطائح أجنة أو أجسام متجيفة في ملاحم أو باء قتالة لم تدفن ولم تحرق وربما كان السبب قريباً من الموضع جاريا فيه وربما عرضت عفونة في باطن الأرض لأسباب لا يشعر بجزيئاتها فابن سينا لم يذكر سبب الأمراض بل تحصل أيضا عن تأثير البيئة المحيطة في توليد ونشر الأمراض.
كما كان يهتم بتنقية هواء المساكن من خلال البخور لطرد الروائح الكريهة وتهوية غرف المرضى كما كان يحرص على وجود الحرارة المعتدلة والمياه الصالحة للشرب والغسل والاستحمام.
بل وتحصل في مكان آخر "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة لا ترى بالعين المجردة وهي التي تسبب الأمراض. لقد عرف العرب العدوى وانتقال الأمراض وعرفوا الجدري والطاعون وانتقالها بالعدوى ودافع ابن الخطيب عن نظرية العدوى في غرناطة في القرن الرابع عشر "لأولئك الذين يقولون كيف نعترف بإمكانية العدوى بينما الديانة ترفض ذلك، نقول أن وجود العدوى ثابت بالتجربة والفحص وبإثبات الحس والتقارير الصادقة، هذه الحقائق تكون حجة مقنعة. حقيقية العدوى تبدو جلية للفاحص الذي يلاحظ كيف أن الذي يحتك بالمريض ينقل المرض بينما الذي لم يخالط المريض يبقى سالماً، وكيف يتأثر الانتقال بالأوعية الدموية وحلقات الأذن والملابس، فكانت النظافة أهم ما يمكن عمله للوقاية، خاصة وأن "النظافة من الإيمان" كما جاء في الحديث الشريف، كما اهتموا بنظافة الجروح.
2- نظافة الجروح:
يحدثنا ابن القف عن نظافة الجروح:
1- أن لا يقع بين شفتي الجرح شيء وفي المعدة مثلاً فإن خروج الكيلوس يمنع شفاء جروح المعدة.
2- استخدام الحرق لتطهير الجرح وتؤخذ خرقة نظيفة للغاية وتحرق تكمد بشيء يمنع وصول الهواء إليها إلى حين تنطفئ النار منها وتؤخذ نورة غير مطفأة تجعل على الموضع.
3- استخدام الخل ويدهن الموضع بدهن خل أو بدهن بنفسج مذاب فيه شمع فقير.
4- علم أن في كل قرحة رطوبية لطيفة (سيروم) وغليظة ومما المانعتان للطبيعة من إنبات اللحم والتحام القرحة فإذا أزيلت تمكنت الطبيعة من فعلتها.
5- عمل درنقة (DRAINAGE) ليخرج الصديد وفتيلة قطن (ص 100).
6- الهدوء توصية بعد كل جرح بالراحة والقلب لا يبرأ لأنه مستمر الحركة، الكلية لدوام مرور الماء فهيا والأمعاء لمرور الكيلوس والمثانة لمرور البول.
ويقول ابن سينا عن الرباطات والأضمدة "يجب أن تكون خرق الرباط نظيفة واستخدم العرب لتنظيف الجروح الكثير من المطهرات كالخل والنبيذ وماء البنفسج والبابونج مما أدى إلى تحسن شفاء الجروح، تقول زيجريد هونكه "ومن سوء الحظ أن الفكرة اليونانية القائلة بمبدأ تكون الكون من أربعة أنواع من العصير ظلت تعمل عملها حتى اعتقد الأطباء اعتقاداً عجيباً يقول أن تقيح الجرح هو الوسيلة الطبيعية لتطهيره، لذلك كان الطبيب يستعين بأحداث القيح الصناعي وتنشطيه. وقد ظلت فكرة بوقراط هذه حية يعمل بها الأطباء زهاء ألف عام حتى جاء ابن سينا فكان أول من عارضها وحاربها ونادى بالعكس، وكانت نتائج آراء ابن سينا قيمة جداً، وجاءت بالعجب العجاب فقديماً كان الجرح لا يشفى إلا بعد أن يمضي عليه زمن طويل قد يتجاوز الأسابيع المليئة بالآلام والأوجاع بل وقد تمضي الشهور قبل أن يلتئم الجرح، أما الآن فإن الجرح يشفى في يومه، فقد تجنبت نظرية ابن سينا لإحداث التقيح فقط بل نادت بوجوب عدم إثارة الجرح سواء كانت هذه الإثارة آلية أو كيماوية، واكتفى الطبيب باستعمال كمادات ساخنة بالنبيذ الأحمر المعتق لتجنب أحداث قيء.
ويصف ابن سينا غسل الجرح "لا ينبغي أن تقرب من المبطوط والمشروط ماء ولا دهنا ولا شيئا من شحم فإن لم يكن بد من غسل فبماء وعسل أو ماء بشراب أو بخل.
ويذكر الإسفنج واستعمالاته فيقول "أنه يغمس في الخل ويوضع على الجراحات فيدملها ويطبخ في العسل فيدمل الجروح العميقة واهتم الأطباء بغسيل العملية ونظافة الجراح أيضاً. "وفي العملية يهتم الجراح بقطع أظافر يديه وتنظيفها وغسل محل العملية في الجسم والمكان الذي يعمل فيه وتبخيره ويستحضر مقدماً ما يحتاجه من آلات ورفائد ومراهم.
كما اهتم الجراحون بنظافة المكان بعد العلمية، قال الزهراوي في الشق العجاني "وإذا فرغت من عملك فاحش الجرح بالكندر والصبر والنشا وشده وصير فوقه خرقاً مبلوله بزيت وشراب ليسكن الورم الحار ثم يستلقي على قفاه ولا يحل الرباط إلا في اليوم الثالث فإذا انحل نطلت الموضع بماء وزيت كثير ثم تعالجه بالمرهم الخلي والمرهم الباسليقون حتى يبرأ.
ويتابع الزهراوي في مكان آخر "فإن عرض في الجرح ورم حار زائد وأكال ونحو ذلك قبل أن يجمد الدم مع البول فأدخل اصبعك في الجرح واخرج ذلك الدم فإنه أن بقي دعا إلى فساد المثانة وعفونتها ثم اغسل الجرح بالخل والماء والملح وقابل كل نوع بما شاكله من العلاج إلى أن يبرأ. لقد اهتموا إذاً بنظافة الجرح قبل وفيخلال وبعد العلمية.
3 – علاج العفونة:
استخدم العرب الإضافة إلى الوقاية بالنظافة، المطهرات والمضادات الحيوية والكي.
أ- المضادات الحيوية: استخدم العرب العفونة ضد العفونة، تقول زيجريد هونكه "فلعلاج الجروح المنتنه اخترع العرب الجاهليون وسيلة فعالة، وهذه الوسيلة لم تعرفها أوروبا إلا في القرن العشرين وهي المعروفة اليوم باسم المضاد الحيوي، فمن سروج الحمير والجواميس استخرج العرب مادة متعفنة وهي التي يصنع منها البنسلين والاسبرجيلوس ومن هذه المادة كونوا مرهماً وعالجوا به الجراح الملتهبة، فنجحوا نجاحاً باهراً".
أما إذا كانت الالتهابات بالحلق استخلصوا المضادات الحيوية من العفن الذي يتكون من الخبز والقموه المريض.
وتقول في مكان آخر "وقد أظهر العرب براعة فائقة في إعداد الأربطة واللبخ والمعاجين والمساحيق هذا عدا عن علاج الالتهابات التي تحدث تحت الجلد والخراجات
ومختلف أنواع الأمراض الجلدية وسائر الجروح، ووقف الأوجاع والحد من التقيح الجروح حيث أوجد العرب المضادات الحيوية على أساس البنسلين والاسبراجيلوس وغيرهما من المواد التي لم تعرفها أوروبا إلا منذ عهد قريب كذلك استعمال النبيذ وهو لا يقل فائدة عن غيره والبن المطحون وقد أحضر هذه الطريقة إلى أوروبا كيميائي المائي وأطلق عليه (فحم البن) وقد ذكر أن العرب أنقذوا منذ ثلاثين عاماً حياته بالبن وتم استخدام البن في ألمانيا في شفاء الالتهابات المزمنة وقد جاء بنتائج عظيمة.
ويذكر ريسلر في كتابه الحضارة العربية، "إن الفضل في استخدام المضادات الحيوية يرجع إلى الرازي وأن علماء العرب أول من استخدم عفن الخبز والشعب الفطري في أدويتهم لعلاج الجروح المتعفنة لذا يجب أن ينسب إليهم اكتشاف مبيد الجراثيم (ANTIBIOTIC)".
ويقول ابن سينا في القانون في علاج جراحة الشجاج "ومن الأدوية الجيدة للجراحة وللدم أن يؤخذ الخمير المحمس اليابس ويسحق ويذر عليه ولا يرطب"(18).
ب – تحضير الكحول: كان النبيذ والخل يسيطران على العمل الجراحي ولكن تطور العلوم بشكل عام والكيمياء بشكل خاص ووجود طبيب كالرازي يمتلك خبرة ومعلومات كيماوية جيدة أدى إلى استخدام الكيمياء في الطب ويعتبر أول طبيب استخدم معلوماته الكيميائية في الطب وقال أن شفاء الأمراض بفعل الأدوية التي يصفها الطبيب هو نتيجة لإثارة تفاعل كيماوي في جسم المريض"(19).
وهكذا بدأ عصر جديد للطب بدأت فيه التجارب المخبرية والاختراعات الجديدة "وقد استخدم أبو القاسم عند التقطير جهاز آخر وهو عبارة عن فرن يشتعل فيه الوقود آلياً وكان يغلق الأواني الزجاجية المتداخلة في بعضها عن طريق لفها بقطعة قماش الكتان وقد استخدم العرب الأمبيق لتنظيف الخل وعمل النبيذ والعرق من البلح عدا تطهير الماء غير النقي وهكذا أصبح من الميسور تطهير الماء كيماوياً وإعداده للتجارة واستخدامه للدواء. وبهذه الطريقة كان الرازي أول من استحضر حامض الكبريتيك ومن السوائل الحامضة المحتوية على مواد نشوية أو مواد سكرية استخراج الكحول.
- الكحل ومعناه الحرفي – أكثر رقة – والكحل في الأصل مسحوق الأنتيمون الناعم وكان يستخدمه الكحالون – أطباء العيون(20).
لقد رأى الرازي ضرورة استعمال الكحول في تطهير الجروح وغيرها من العلاجات التي يلزم استخدامها للمرض فابتكر طريقة لتحضير الكحول من المواد النشوية والسكرية المتخمرة.
لقد استعمل الكحول للوقاية والعلاج وتنظيف العفونة ولكنه لم ينتشر كانتشاره العصري ذلك أنه لم يذكر في قانون ابن سينا ولا ابن القف بينما ذكر الخل والعسل بكثرة، يقول د. نور حسين شودري "إن الزهراوي نصح بسكب الكحول بعد العملية لأن ذلك يساهم في الشفاء.
ج – الكي:- كان الكي من أركان العلاج الجراحي وقد رسم الزهراوي في كتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف" المكاوي المختلفة وفصلها في 56 فصلاً من الرأس إلى القدم. ولكن الكي استخدم بصفة رئيسية في علاج العفونة أيضاً وهو قريب من استخدام الكي الحديث (CAUTHARIZATION) ولم يستخدم الكي إلا بشروط وظروف محدودة يقول ابن القف عن
شروط الكي:
1- بعد الثقة بنقاء البدن.
2- بعد اليأس من أن الأدوية لا تفعل ذلك.
وحدد الزهراوي أنواع المعادن وفضل الحديد بينما فضل ابن القف الذهب، يقول ابن القف في الكي "الكي علاج بالغ لمنع انتشار الفساد وذلك صار يستخدم حيث لا تفي الأدوية بما يحتاج إليه في التجفيف وآلة الكي تتخذ من الحديد ومن النحاس ومن الفضة ومن الذهب وأجوده جميعاً الذهب لا لأنه جوهر نفيس غالي الثمن بل لأن التجربة قد شهدت بتوقيته للعضو بحيث أنه لا يعقبه فساد ولا عفن كما يعقب غيره وإن كان في هذا خلاف على ما سنذكره.
وقال الزهراوي "واعملوا يا بني أن سر التعالج الكي بالنار وفضله على الكي بالدواء
المحرق لأن النار جوهر مفرد لا يتعدى فعله العضو الذي كوى ولا يفيد بعضو آخر متصل به إلا ضرراً يسيراً، والكي بالدواء المحرق قد يتعدى فعله إلى ما بعد الأعضاء. وتابع "إلا أن الكي يفضل على الدواء بسرعة نجاحه وقدرة فعله وشدة سلطانه.
فالكي وسيلة علمية لا يلجأ إليها الطبيب إلا بعد أن عجز وسائل أخرى وقد قيل "آخر الدواء الكي" وقد تحصل الزهراوي عن فوائد الكي في علاج التعفن والأمراض الرطبة.
يقول ابن سينا "ألكي علاج نافع لمنع انتشار الفساد. ولتقوية العضو الذي برد مزاجه ولتحليل المواد الفاسدة المتشبثة بالعضو ولحبس النزف وأفضل ما يكوى به الذهب.
- الجروح
1- تقسيم الجروح:
يقسم ابن القف الجروح إلى نوعين(28):
- نوع عظيمة الضرر وقد تكون مميتة، وهي التي تحدث للأعضاء الهامة مثل الدماغ والكبد والقلب والكلى، ويحبذ أن لا يقترب منها الجراح، أما النوع الآخر في باقي الأعضاء ويقسمها أيضاً إلى قسمين.
- البسيطة وهي التي لا يهذب معها شيء من جوهر العضو وهي أيضاً نوعين منها ما هو شق فقط ومنها ما لها غور.
- والمركبة وهي ما ذهب معها شيء من العضو.
ويقول الزهراوي حسب الموقع وحسب الأداة، "إن الجراحات تختلف بحسب الشيء الذي تكون به الجارحة وبحسب الموقع الذي يقع عليه الجرح فالأشياء التي تكون بها الجراحات كثيرة كصكة حجر أو قطع سيف أو سكين أو طعنة برمح أو
عود أو سهم وغير ذلك من أشياء عديدة، وأما الجراحات بحسب المواضع من الجسم كالجرح الذي يقع على الرأس أو العنق أو الصدر أو البطن أو الكبد ونحوها من الأعضاء".
ويقسم ابن القف الجراحة بالرأس "فإن وقعت الجراحة في الرأس فإنها تعرف بالسجة وأقسامها ستة، الصادعة، الهاشمة، والوضحة، والمنقلة والمأمونة، والجائفة، أما الصادعة فهي التي ليس فيها إلا صدع فقط والهاشمة هي التي يتهشم فيها نحف الرأس، والواضحة هي التي يوضح فيها العظم أي التي يتبين بياضه والمنقلة هي التي يخرج فيها العظم والمامونة هي التي تبلغ فيها الآفة إلى أم الدماغ، والجائفة هي التي تبلغ فيها الآفة إلى تجويف الدماغ. وهذا التقسيم يدل على دقة الملاحظة والوصف والتفصيل في الأعراض، وهذا ينطبق على معظم الأعضاء والجراحات.
2- علاج الجروح:
يتفق الأطباء العرب على عدة أسس لمعالجة الجرو:
1- الشد والربط في حالة الجروح البسيطة مثل الشق مع مراعاة النظافة المطلقة من غير أن يقع بين شفتي الجرح شيء. (ابن القف).
2- الخياطة إذا صعب اجتماع شفتي الجرح.
3- تركها مفتوحة إذا كان هناك خسارة كثيرة في الأنسجة، أما إذا كان الجرح بحاجة إلى أن ينبت فيه اللحم فلا يحتاج إلى خياطة، لكن يحتاج مرة إلى الرباط الذي يضب الوضر (وسخ الدسم واللبن)(31) ومرة إلى رباط بقدر ما يمسك الرباط عليه أما إذا كانت الجراحة وقد انقطع منها لحم كثير فتحتاج إلى المنبتات للحم وليس يكفي ما يجفف ويمنع.
4- الفصد وربما كان سيلان قدر معتدل من الدم نافعا للجراحة يمنع الورم والتبتير والحمى، فإن أفضل ما يعني به في الجراحات أن تمنع تورمها.
ويذكر الزهراوي "وكان الجرح كبيراً وخشيت على العليل حصول الورم الحاد
فبادر وافصده القيفال على المقام ولا تؤخر واخرج له من الدم على قدر قوته إن لم يمنع من الفصد مانع".
وهكذا فإن وقف النزيف كان هاجساً أساسياً في معالجة الجروح وقد استخدمت عدة طرق في وقف النزيف(34).
1- استخدام الضغط بالإصبع.
2- الربط للعضو.
3- الإسفنج.
4- الكيز
5- استخدام الماء البارد.
6- الأدوية القابضة.
7- ربط الأوعية الدموية(35)، يقول الزهراوي "فإن كان في هذه الجراحات شريان أو عرق أصبته لم ينبتر فابتر بالمبضع واربطه وإن دعت الضرورة إذا لم ينفع ما ذكرنا فاكوه حتى ينقطع الدم فإن كانت هذه الجراحات صغارا بساطا فأمرها سهل هين يكتفي بعلاجها بأن تذر عليها الذرور وهي بدمها قبل أن يغيرها الهواء. وصفة الذرور أن يؤخذ من اللبان جزء ومن الشبان جزأن ومن الجير المطفأ أو غير المطفأ ثلاثة أجزاء ويسحق الجميع وينخل ويحشى به الجرح ويشد شداً جيداً حتى يلصق عليه لصوقا جيدا وينعقد بالدم ثم تشده من فوق بالرفائد وتتركه لا تحله ما دام لا يتورم وإن لا ينقلع عن الدواء حتى يبرأ". وهناك مجموعة من الأدوية المستخدمة في الجروح وهي تعطى على هيئة ذرور أو بودرات بالمصطلح الحديث أو مراهم.
1- المجففات لإزالة القيح وتجفيف الدم المنصب في الجرح.
2- الملصقات "وأما الأدوية الملحمة فهي التي تجمع بين المتباعدين ولا تحتاج إلى أن تتصرف إلا في سطحيها فلتصق بينها بالنداوة التي في جوهرها وإن كان دم حاضر فهي التي تجفف الدم الحاضر في الجرح المكتفي به في الإلصاق تجفيفا سريعاً قبل أن يتقيح".
3- منبتات اللحم "المنبت للحم هو الذي يعقد الدم الصحيح لحماً، فإن كان له تجفيف
4- شديد منع الدم الوارد، فلم تكن مادة للحم وإن كان له جلاء شديد، إزالة وسيلة، فأنفذ المادة الموجودة للحم، فيجب أن لا يكون له كبير تجفيف بل إلى حد، ولا جلاء قوي جداً بل جلاء قليل قدر ما يحلو" هذا بالإضافة إلى تغذية المريض بالأغذية الملائمة.
5- الأدوية الحادة الأكالة، مثل القلقطار والزاج والزرنيخ والنورة (حجر الكلس).
6- القوابض مثل الزاج والقلقطار إذا كان لختم جروح الجلد.
7- الكي لمعالجة العفونة.
8- المطهرات.
9- المراهم النضجة، وأما إن كانت قد غيرها الهواء بعض التغيير ولا يما إذا كان في زمن الصيف فليس في وضع هذا الذرور معنى فعالجه بما ذكرنا بأن تحمل عليه بعض المراهم المنضجة.
3- خياطة الجروح:
يحدد ابن القف أربعة شروط للخياطة(40).
1- أن يكون الخيط معتدلاً في الصلابة واللين فإن الصلب ربما خرق لجلد واللين سهل القطع سريعة.
2- أن تكون الغرز معتدلة في القرب والبعد بعضها من بعض، فإن البعيدة لا تضبط الأحشاء على ما ينبغي والشديدة القرب كثيرة الألم.
3- أن لا يكون مغرز الإبرة قريباً من حافة الجرح فتنخرم ولا بعيدة عنه فيتعذر انضمام الشفتين.
4- أن تكون الإبرة لرأسها ثلاثة حدود وهي التي يخيط بها الفراء فإن مثل هذه الإبرة تكون سهلة الدخول في الجلد.
ويحدثنا الزهراوي عن الخياطة بالخيط الرقيق الذي يسل من مصران الحيوان اللاصق بعد أن يدخل في إبرة وهو أن يؤخذ طرف هذا الخيط من المصران فيسلت ناعماً، ثم يربط في طرفه خيط كتان رقيق مفتول ثم يدخل ذلك الخيط في الإبرة وفيه خيط المصران فيخاط به المكان ثم يرد إلى الجوف.
وفي خياطة جراح الأمعاء: "يؤخذ النمل الكبار الرؤوس ثم تجمع شفتا الجرح ثم توضع نملة منها وهي مفتوحة الفم على شفتي الجرح فإذا قبضت عليه وشدت فمها قطع رأسها فإنه يلصق ولا ينحل".
أما كيفية الخياطة فإن ابن القف يحدد أربعة طرق:
1- أن تدخل الإبرة المذكورة من خارج الجلد إلى داخله ثم في الفصلة ثم في الصفاق ثم من داخل الطرف الآخر في الأجزاء المذكورة إلى خارج ثم من خارج الطرف الآخر إلى داخل ثم من داخل إلى الخارج ثم خارج الطرف الآخر إلى داخل ثم من داخل إلى خارج مستمرة وهو الأفضل على رأيه.
2- أمر صاحب (الكامل المجوسي) أن يعقد كل غرزة وما يقابلها عقدة واحدة ويقطع الخيط ثم تدخل الإبرة من خارج الجلد إلى داخله ثم من داخله إلى خارج ثم يعقد الخيطين ويقص وهكذا وهو رأي جيد (ابن القف).
3- أن تجمع الأجزاء كلها من كل جانب مع الأجزاء كلها من الجانب الىخر وتدخل فيها الإبرة جملة من خارج إلى خارج ثم تجانب الإبرة إلى هذا الجانب وتدخل على العادة إلى خارج وهذا ضعيف.
4- أن يتخذ إبرتين ويخيط بهما الحواشي جميعها من الجانبين كما تخيط الأساكفة الجلد، وهذا وجه ردئ.
5- الوجه الثاني من الخياطة أن تجمع كل جزء إلى نظيره مثلاً حافة الصفاق إلى حافته الأخرى العضلات إلى العضلات والجلد إلى الجلد وتخيط كل شيء مع نظيره وهذه متعذرة لوجود الدم وفيها تكرار الألم.
يقول الزهراوي عن النوع الثالث:- "وبهذه الخياطة قد خطت جراحة عرضت لرجل في بطنه كان قد جرح بسكين وكان خرق الجراحة أكثر من شبر وكان قد خرج من معائه نحو شبرين من الأمعاء الأوسط وكان الخرق في وسط البطن، فرددته بعد أن قام معائه خارجاً من الجرح أربعة وعشرين ساعة فالتحم الجرح في نحو خمسة عشر يوماً
وعالجته حتى برئ وعاش بعد ذلك سنين كثيرة. يتصرف في جميع أحواله وكان الأطباء يحكمون عليه أن لا يبرأ البتة"(44).
ويذكر الزهراوي في خياطة البطن "واعلم أن خياطة البطن على أربعة وجوه، الخياطتان الإثنتان عاميتان تصلح في خياطة البطن وفي خياطة سائر جراحات البدن والخياطتان الأخريان خاصيتان لعم سائر الجراحات إلا أنهما أخص بخياطة البطن وأنا أصفها لك واحدة واحدة"(45) ويذكر الزهراوي أنه اقتبس بعضها عن جالينوس(46).
ج – قواعد عامة في معالجة الجروح.
بالإضافة إلى الأدوية والخياطة فإن هناك قواعد يتبعها الجراحون العرب ويحدد ابن سينا ثلاث قواعد علينا مراعاتها في الجراح.
1- قطع ما يسيل وقطع مادته لمنع التورم.
2- الحام الشق بالأدوية والأغذية الموافقة.
3- منع العفونة ما أمكن ويحدد ثلاث طرق لمنع العفونة.
التجفيف والأدوية الحادة الأكالة، ثم النار، ويحدد لتفرق الاتصال في الأعضاء العظيمة التسوية والرباط الملائم ثم السكون واستعمال الغذاء المغذي. وهناك قواعدة عامة نجدها عند جميع الجراحين العرب.
1- النظافة وتشمل:
• أن لا يقع بين شفتي الجرح شيء "في المعدة خروج الكيلوس يعيق شفائها جرح المعدة" فإن كان الجرح قد أثر في العظم مفتته فإن كان فيه شظايا من العظم فاجتذبها كلها أو ما يمكن منها.
• الهدوء توصية بعد كل جرح بالراحة، القلب لا يبرأ لأنه دائم الحركة الالتحام مفتقر السكون.
• الجرح المخيط ثانوياً أي بعد مدة تحك الشفتان برأس المجس حتى يدميها ثم تجمع الشفتان عليهما الرفائد ويعصب.
• حلق مكان الجرح وأما نفس الموضع فأول شيء يعمل قص الشعر قصاً مستقصى.
• عمل درنقة، فم ليخرج منه الصديد.
• استخدام الحرق لتطهير الجرح "أو تأخذ خرقة كتان نظيفة إلى الغاية وتحرق وتكمد بشيء يمنع وصول الهواء إليها إلى حين تنطفئ النار فيها أو تؤخذ نورة غير مطفأة تجعل على الموضع.
• استخدام المطهرات:- "وفي العملية يهتم الجراح بقطع أظافر يديه وتنظيفها وغسل محل العمية في الجسم والمكان الذي يعمل فيه وتبخيره ويستحضر مقدما ما يحتاجه من آلات ورفائد ومراهم"(52). ويدهن الموضع بدهن الخل أو بدهن البنفسج مذاب فيه شمع فقير.
• علم أنه في كل قرحة رطوبتين لطيفة (سيروم) وغليظة وهما المانعتان للطبقة من إنبات اللحم والتحام القرحة، فإذا أزيلت تمكنت الطبقة من فعلها.
2- وضع فتائل في الجروح(54) فإن كانت القرحة كثيرة الروطبة فيجعل بعسل منزوع الرغوة ويعمل فتيلة من قطنة عتيقة ويلوث به ويدخل داخل القرحة.
3- فتح فتحة لإخراج القيح "فإن كان لها غور فينبغي أن تخيط ويترك لها فم أسفل الجرح ليخرج منه الصديد ثم تداوى بما يداوي به القورح".
ويقول ابن ينا "وتحرى أن يكون لفوهة الجرح مكان ينصب الوضر منه دائماً بطبعه إما بأن يوقع البط هناك، وإما بأن يشكله بذلك الشكل فغني قد أبرأت جرحاً كبيراً كان غورة حيث الركبة وفوهته في الفخذ من غير أن جعلت له فوهه أخرى أسفل عند الركبة لكن نصبت الفخذ نصبة كان القعر فوق والفوهة أسفل، فبرئ من غير بط في الأسفل".
4- الحاجة إلى خادم جيد لمساعدة الجراح في عمله، وذلك أنه ينبغي أن يمسك موضع تلك الجراحة كله بيده من خارج فيفتحه ويجمعه ويكشف منه شيئاً بعد شيء للمتولي خياطتها.
5- التغذية للمساعدة في التئام الجروح، ثم بعد هذا يراعي في تغذية العليل أمور خمسة:- أحدها أن لا يمتلئ بالطعام، ثانيها أن يجعل غذاءه رقيقاً – يمنع من استعمال الحامض يمنع من استعمال الأغذية المنفخة، يمنع من استعمال الفاكهة.
ونستطيع أن نلخص المبادئ العامة للجراحة كما يلي:
1- لقد عرف العرب وجود أجسام صغيرة (جراثيم) تسبب الأمراض وانتقال الأمراض بالعدوى والاحتكاك بالمرضى والهواء والماء.
2- أهمية نظافة الجروح من الأجسام الغريبة والدرنقة والفتيلة.
3- استعملوا المطهرات للجروح مثل النبيذ والأعشاب المهدئة كالبابونج والبنفسج، كما أضافوا الكحول إلى قائمة الأدوية، واستعملوا المطهرات قبل وبعد العمليات.
4- استعملوا الخمير والشعب الفطري لعلاج الجروح كذلك الخبز المتعفن للجروح المختلفة.
5- استعملوا الكي كوسيلة مهمة لتنظيف الجروح الملتهبة بالإضافة إلى الاستعمالات الأخرى للحرارة الكاوية.
6- تقسيم الجروح ودقة تفصيل وصفها بطريقة علمية.
7- علاج الجروح بطرق تقارب العلاج الحالي في أيامنا.
8- وقف النزيف يساوي أيضاً ما وصل إليه العلم الحديث.
9- استعمال الدرنقة.
10- الخياطة بأساليب متعددة معروفة حالياً ومعرفة خيوط من أمعاء حيوانات. إن جميع ما سبق يدل على علاج الجروح بطريقة علمية تقارب طريقة العلاج في عصرنا الحالي، وإذا أهملنا بعض التفاصيل عن الفصد والأدوية المختلفة والتي بحاجة إلى تحليل ودراسة مدى منفعتها والمواد التي تحتوي عليها، لوجدنا أن العرب في العصور الوسطى أي عصور النهضة الإسلامية قد عالجوا الجروح كما نعالجها في القرن العشرين.
المراجع
altibbi.com
التصانيف
أحياء الصحة طب العلوم البحتة