ليست هذه لحظة الحسم في مصر؛ فالعقدة الكبرى في العلاقة بين الدين والسياسة في الشرق العربي تحتاج الى المزيد من الطبخ كي تنضج؛ فالمسألة مركّب معقد اجتماعي وثقافي وسياسي بقي راكدا لزمن طويل، وحتما سيختلف مسار إصلاح تلك العلاقة عن سواها في مجتمعات وشعوب وأديان أخرى.
هل يمكن أن تتحلل مركبات هذه العقدة بأدوات الديمقراطية وبفعل التغير الاجتماعي والثقافي التدريجي، أو هل يمكن للمصريين وغيرهم من مجتمعات عربية أن يتجنبوا لعبة الدماء ويحصدوا ثمار الديمقراطية بدون حل هذه العقدة؟ من الواضح أن الخيارين لا مساحة لهما في سياق التحولات الجارية على الأرض.
اليوم يبدو أن التفاعلات المرتبطة بالدين السياسي في الشرق العربي هي أكبر التحديات التي تواجه هذه المجتمعات، سواء كان ذلك في الصراع حول الحاضر والمستقبل بين الدولة الدينية والدولة المدنية أو الصراع السياسي الطائفي المغرق في التوظيف والتعبئة الشعبية؛ بمعنى أن لا مستقبل للديمقراطية ولا التنمية بدون اقتراب اجتماعي وثقافي من هذه العقدة، وكلما تم تسخين حدة الصراع حولها اكتشفنا حجم تعقيد هذه المسألة ومدى الحاجة الفعلية لحلها.
التساؤل الحرج الذي بقي يُطرح من خلفية الإيمان بحق تيارات الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة، بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، دار حول ما قد يفرضونه من تغيير اجتماعي وثقافي قسري قد يضحي بالديمقراطية ذاتها، تحت مبرر القاعدة التراثية "دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة"، والتي استهلكت جل فعاليات هذه التيارات على مدى أكثر من نصف قرن، وهي المرحلة التي حضّرت فيها هذه التيارات خميرتها التاريخية.
الخبرة البسيطة لهذه التيارات في السلطة أوضحت حجم الإرباك الذي عانت منه، وعدم وضوح برنامج عمل سياسي لديها قابل للحياة والتوافق على الحد الأدنى منه، فلاحظنا كيف دخلت في مواجهة مع المجتمع حينما حاولت أن تلعب في التفاهمات التاريخية الهشة، وهنا علينا أن نلاحظ أن بعض تجارب القوى السياسية الدينية التي حققت نجاحات سياسية نسبية في كل من تركيا والمغرب قد مارست السياسة بدون تطرف ايديولوجي وفصلت بين السياسة ذات المضامين الفكرية الإسلامية والعبادات والحياة اليومية للناس التي لم تقترب منها.
مصر نفسها لن تقبل القسمة إلا على نفسها، فالإخوان المسلمون وهم اكثر حركات الإسلام السياسي الحديثة والمعاصرة رشدا، يضيعون على مدرستهم السياسية فرصة تاريخية قد لا تتكرر تتمثل في المصالحة بين الإسلام السياسي والديمقراطية. وللأسف فالكثير من المؤشرات لا تدل على أن النظام في مصر يمشي في اتجاه تدشين تلك المصالحة، فثمة تيار داخل الجماعة هو الأقوى يذهب لتكريس الهيمنة على كافة مفاصل الدولة وهو ما يقود اليوم الى المواجهة مع المجتمع أو بمعنى أدق المواجهة داخل المجتمع.
في مراقبة مشاهد الخسارة والخراب في مصر، سورية، العراق، فلسطين، ليبيا وغيرها، وصلت المجتمعات العربية إلى حالة من القناعة السلبية التي تدعو من أعماقها المولى أن لا تتغير الأحوال.
لقد خسرنا معركة النقد الثقافي للمجتمع العربي وهي في مهدها، وهي في المحصلة أهم مئات المرات من النقد السياسي الذي يمارسه من هبّ ودب هذه الأيام، تلك المعركة التي من خلالها كان يمكن أن يجد الإصلاح ألف باب وباب.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد