على علماء الاجتماع والمؤرخين الجادين الذين بحثوا في المجتمعات العربية، إعادة صياغة المفاهيم التي فسروا بها المجتمع العربي، خصوصا بعد الخلاص من حكم السلطنة العثمانية.
فقد صيغ العديد من الأفكار المهمة التي تقول إن المجتمع العربي لم يستطع الانتقال، حتى هذه اللحظة، من "الاجتماع السلطاني" إلى "الاجتماع المدني". ولعل هذه المقولة تؤكد عدم قدرة مجتمعاتنا على التقدم إلى الأمام؛ فهي مجتمعات تحكمها العلاقات الاجتماعية الأولية، من عشيرة وطائفة وعرق. وهذا التكوين الأولي بقي مستترا في الدولة الوطنية التي قامت على أنقاض حركة التحرر الوطني من الاستعمار الغربي.
ولم تتمكن المجتمعات، من خلال نخبها الثقافية أو السياسية الحاكمة، من القفز فوق هذا المركب الديني الطائفي العرقي القبلي الإثني، بل إنها عززته بشكل كبير ليخدم مصالحها الذاتية، ويطيل من عمر السلطات السياسية التي حكمت وسعت إلى ترسيخ هذا المفهوم بمباركة من النخب الثقافية، بغض النظر عما إذا كانت هذه النخب معارضة لتلك السلطات الحاكمة، أم ترفل في ركبها وتتلذذ بنعيم امتيازاتها.
المحصلة النهائية هي أن هذه المجتمعات بقيت مجتمعات ما قبل الدولة. وهي، بشكل أو بآخر، بقيت تدور في فلك مقولات ومفاهيم المجتمعات السلطانية التي لم تعرف سلطة لقانون مدني، ولم تختبر شيئا من الحياة المدنية التي يكون فيها الناس شركاء في صياغة مستقبل حياتهم، ويكونون مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات يقومون بها. وهذا يفسر عدم النضوج على مستوى الدولة الوطنية في ذهن الناس، وسرعة تفككها في حال تعرضها لهزة كبيرة، كتلك التي حصلت للدولة العراقية بعد الاحتلال الأميركي.
وعندما خرجت الجموع العربية في مصر وتونس واليمن وسورية لتغيير الأنظمة السياسية الحاكمة، لم تكن هذه الجموع تملك تصورا لطبيعة المآلات التي تريد أن تصل إليها بعد أن تحقق الإطاحة بالأنظمة. لذلك، سقطت في الاختبار الاجتماعي المنطلق من منظومة مدنية. وهذه الحال تنطبق بشكل أساسي على الحالتين التونسية والمصرية؛ حيث تقدم الديني السياسي على حساب المدني الوطني، وحقق كسبا، وذلك لرمزية الخطاب في ذهنية الناس، وسهولة تمريره، والأهم من ذلك لالتصاق هذا الخطاب الديني ومن يوظفه سياسيا، بشكل كبير، بتركيبة الاجتماع السلطاني الذي لا يقدم سوى مقولات يومية لا تحمل استراتيجيات مستقبلية لشكل العلاقة بين المجتمع والدولة، أو يؤسس لدولة وطنية تكون فيها السلطة للقانون ويكون جميع المواطنين فيها، بغض النظر عن تركيبتهم الدينية أو السياسية، متساوين في الحقوق والواجبات!
ولعل الحالة السورية تبدو الأكثر وضوحا في النموذج " النيئ" للثورات. فقد ولّدت هذه الثورة العشرات من المعارضات التي عجزت عن إحداث تغيير، رغم كل المساعدات الدولية التي قدمت لها، والدعم الإعلامي الذي واكب انطلاق مسيرتها السلمية. بل إن هذه الثورة "النيئة" سعت الى تكريس الطائفية والمذهبية والعرقية، ما عزز وبقوة فكرة مجتمعات ما قبل الدولة؛ أي المجتمعات النيئة، وثورتها النيئة كذلك!
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جهاد المحيسن