تبث إذاعة "بي. بي. سي" برنامجاً اسمه "صندوق النغم"، يعود إلى سنوات طويلة من عمر الإذاعة. فيه تعاد المقابلات التي أجريت مع أعمدة الموسيقى والغناء العربيين؛ محمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش، وأسمهان، وفيروز، ورياض السنباطي، ووديع الصافي، وعبده موسى، وسميرة توفيق. وهو يلقي الضوء على كافة أشكال الموسيقى في البلاد العربية.
في إحدى حلقات البرنامج، بُثت مقابلة مع المطربة الكبيرة السيدة فيروز، بعد أن سطع نجمها في مهرجان "بعلبك". وكان الروائي الكبير الطيب الصالح يتحدث قبل المقابلة عن هذا الصوت الساحر، ومن ذات المعبد في بعلبك. وتبعه لقاء مع الرحابنة. 
والملاحظ أن فكرة المكان هي التي تسيطر على كلمات الشعراء في الغناء اللبناني، ما يؤسس للهوية الوطنية اللبنانية، ويجعل فكرة الشخوص فكرة ثانوية، لأن معادل المكان ثابت، فيما معادل الزمن والإنسان متغير. ولذلك، ترتكز تلك الهوية على صخرة صلبة تسمح لها بتثبيت دعائم هذه الهوية.
وفي المقاربة "الهوياتية" مع بلدان أخرى، نجد أن المكان لا يشغل هذا الحيز الذي يشغله في النص اللبناني، مع بعض الاستثناءات في الغناء المصري، وخصوصا في قصائد أحمد شوقي التي غناها محمد عبدالوهاب؛ حيث النيل والفلاح حاضران بقوة. أما في الحالة الأردنية، فتكاد فكرة المكان تكون مفقودة، إلا في بعض الاستثناءات التي أسس لها توفيق النمري، والتي تتحدث عن الريف والفلاحة ووصف للمكان.
وتبرز الظاهرة المكانية في الحالة الأردنية، بشكل واضح، في شعر الشاعر اللبناني سعيد عقيل، والذي غنت قصيدته الشهيرة السيدة فيروز: "أردن أرض العزم أغنية الظبا.. نبت السيوف وحد سيفك ما نبا.. في حجم بعض الورد إلا إنه.. لك شوكة ردت إلى الشرق الصبا.. فُرضت على الدنيا البطولة مشتهى.. وعليك دينا لا يخان ومذهبا". وكذلك قصيدة الشاعر الأردني حيدر محمود التي غنتها السيدة نجاة الصغيرة: "أرخت عمان جدائلها فوق الكتفين.. فاهتز المجد وقبلها بين العينين.. بارك يا مجد منازلها والأحبابا.. وازرع بالورد مداخلها باباً بابا.. وازرع بالورد مداخلها باباً بابا".
هاتان العلامتان الفارقتان كان من الممكن، إذا ما تم تطويرهما، أن تؤسسا لهوية مكانية على غرار تلك الهوية اللبنانية التي تجسدت في مجمل الأغاني اللبنانية، والتي تجعل من المكان ملتحما بالأجداد والآباء والأبناء. وفي هذا السياق تبرز حكايا الجدات عند فيروز، وحكايا الأجداد عند طوني حنا "شروال جدك يا جدي مرقع.. لكن في قلبي وبعده معلق من أيام جدك وجدي".
في هذا الحديث عن الهويات في الأردن، تبرز ظاهرة المكان المنفي أو المغيب أو المستتر، ما يفسح المجال للغلط، ويجعل من الهوية في حركة غير مستقرة. ولذلك يصبح الهروب نحو الشخوص المجال الذي يهرب به ونحوه الجميع. وبذلك، يصبح معادل المكان ثانويا في التشكيل الثقافي والهوياتي، ما يساهم في تعميق الانقسام، ويجعل من الهوية غير ناضجة وطارئة، طالما أن المتغير هو الثابت!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جهاد المحيسن