قيل الكثير، خلال الأيام القليلة الماضية، بشأن إجراءات استعادة هيبة امتحان الثانوية العامة "التوجيهي"، مقابل إصرار فئات على انتهاك حرمة هذا الامتحان؛ سواء  بالغش، أو بالاعتداء على قاعات الامتحان والمراقبين. بالنتيجة، إذا أرادت الحكومة أن تفعلها، فهي قادرة؛ أي إذا أرادت استعادة هيبة القانون، وليس فقط مجرد ضبط إجراءات الامتحانات المدرسية، فإن هذا ممكن. وبالنتيجة أيضا، لا يمكن بأي شكل من الأشكال ضبط امتحان بحجم "التوجيهي"، يشارك فيه نحو 170 ألف طالب وطالبة، من دون أي اختراق. لكن الأمر الخطير، والذي كنا نراقبه خلال السنوات الماضية وكشفته أزمة "التوجيهي"، هو حجم الردة الاجتماعية التي بات يشهدها المجتمع الأردني.
الارتداد الاجتماعي هو ثمن علاقات مركبة ومعقدة، لا يمكن تبرئة المؤسسة الرسمية منها، وتحديدا خلال سنوات تراجع دور القانون في الحياة العامة، وفي ضبط العلاقة بين المجتمع والدولة. وعلينا أن لا نتصور أن الأمور تعود إلى سابق عهدها بقرار رسمي.
كشف الحزم الحكومي هذه المرة في ضبط إجراءات امتحان "التوجيهي"، حجم الردة الاجتماعية، وحجم تراجع منظومة القيم العليا الناظمة للعلاقات، ومستوى سيطرة ذهنية الدهماء التي تبرر استخدام الوسائل كافة في الوصول إلى المصالح والخلاص الفردي. وذهنية الدهماء في مبتدئها تبيح الوسائل والطرق كافة، وتستخدم ما يتاح لها من أدوات، للوصول إلى مصالحها، وذلك قبل أن تتحول إلى ذهنية العصابة وتقاليدها.
لم نكن نتصور قبل عقد أو أكثر أن تقوم جماعات من الأهالي بمهاجمة قاعات "التوجيهي" بالأسلحة والهراوات، من أجل كسر انتظام الامتحان والسماح بالغش. ولم نكن نتصور أن انتظام الامتحان لا يتم إلا تحت إجراءات أمنية متشددة، وأن التصريحات المتتالية لرؤساء القاعات تنحصر في أن الأسئلة وصلت بأمان وسلام! فيما كشفت حالات الغش عن طرق وأساليب وحيل، شاركت فيها أمهات وآباء وأطباء ومهندسون وغيرهم من فئات اجتماعية، تدلل على حجم الانحطاط القيمي والأخلاقي، وحجم التورط في الردة الاجتماعية.
علينا الإقرار أن رأسمالنا الاجتماعي في تراجع وانحطاط. وهذا أخطر مما نعانيه من عجز في رأس المال المادي المتعلق بحجم ثروات المجتمع والدولة. فكل ما نتحدث بشأنه من منظومة القيم والأخلاق العامة والسلوك العام، يُختصر في مورد اجتماعي ثقافي واقتصادي أيضا، هو رأس المال الاجتماعي، وخلاصته الثقة؛ أي الثقة العامة: ثقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض، والثقة بين المواطن والدولة، والثقة بالقانون، والثقة بالعدالة العامة، والثقة بتكافؤ الفرص، والثقة بالسوق. وببساطة، فإنه يعني المعايير والقيم وأنماط السلوك كافة التي تخلق التبادلية النافعة بين أفراد المجتمع وجماعاته، وبين المجتمع والمؤسسات، وبين الجميع والدولة.
النقطة المفصلية هي الوصول إلى تحول اجتماعي ثقافي، يجعل هذه القيم وأنماط السلوك ذات قيمة ثقافية واقتصادية وسياسية، تنعكس في قدرة الجماعات على الانتقال بهذا المورد من الاستغلال والتوظيف الضعيف على مستوى العائلة والجماعة، إلى مستوى الدولة والنظام العام. ويبدو ذلك واضحاً في المثال التاريخي للتحول الذي شهدته أوروبا نحو الرأسمالية، كما يوضحه ماكس فيبر في كتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"؛ حينما تحولت الثقة والعلاقات التبادلية إلى نعمة للسوق والدولة معا.
خلال السنوات الماضية، ركزنا جل انتباهنا على الارتداد نحو الجماعات الأولية والهويات الفرعية. وهو في الحقيقة ما يعبر عن قراءة سياسية انتقائية لأزمة كبيرة، عنوانها الثقافة المجتمعية، وحجم تراجع رأسمالنا الاجتماعي وكيف تم إفقاره.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد