لنتخيّل، للحظة واحدة، أن أفغانستان سقطت في يد الحكم الطالبانيّ من جديد، وأن الصومال سقطت في يد "الشباب" الإسلاميّين الذين يُرجّح أن تربطهم بـ"القاعدة" صلة ما...،
لنتخيّل مثل هذا وهو ليس بالتخيّل البعيد: ذاك أن إسلاميّي الصومال صاروا قاب قوسين او أدنى من العاصمة مقديشو، بعدما استولوا، انطلاقاً من معاقلهم في الجنوب، على سائر أنحاء البلاد، بشهادة حكّامها الرئيسيّين. أمّا "طالبان" التي تكاد تستكمل سيطرتها على المناطق الباشتونيّة ذات الامتداد الباكستانيّ، فوصل الحال بأن يستجديها الرئيس حامد كرزاي كي "تحاوره"، عارضاً توفير أمن الملاّ عمر والتضحية، في سبيل التفاوض معه، بالعلاقات مع حلفائه الأميركيّين والغربيّين.
ما الذي سوف يحصل لهذين البلدين اللذين جرّبا، بقدر من التفاوت، حكم التنظيمين الهمجيّين المذكورين وطرق تطبيقهما للشريعة؟ ولكنْ أيضاً ما الذي يحصل لمنطقة الشرق الأوسط العربيّ برمّتها، هي الواقعة، في التصنيف الاستراتيجيّ والجغرافيّ السياسيّ العريض، غرب أفغانستان وشمال الصومال؟ واستطراداً، ماذا ستكون عليه "صورة الإسلام" التي يحرص الكثيرون على نصاعتها، وماذا سنقول بعد ذاك عن "المستشرقين" و"تشويه صورتنا" فيما نشاهد شعوبنا تفضّل مثل هذا الاختيار الرهيب وتنحاز طائعة إليه؟
نؤجّل الإجابة عن هذه الأسئلة، وهي إجابة لن يتأخّر ظهورها طويلاً إذا ما تحقّقت تلك الكوابيس المرجّحة الحدوث. نؤجّل الإجابة لنلاحظ الدور الذي لعبته التفاهة والجبن في إيصال الأمور الى هذه النتيجة، ليس في الصومال وأفغانستان فحسب، بل في عموم العالم الإسلاميّ.
فالأفغان، منذ إطاحة الطالبان ونظامهم بُعيد جريمة 11 أيلول (سبتمبر) 2001، لم ينجحوا في بناء ما يُعتدّ به، أكان لجهة مكافحة الفساد أم في مجال ضبط المحسوبيّة داخل تراكيب السلطة والإدارة الجديدتين، وهذا ناهيك عن ظاهرات أطنبت الصحافة العالميّة في تناولها، بدءاً بالتنازع على الحصص بين أمراء الحروب والاثنيّات الكثيرة وانتهاء بزراعة الأفيون وسائر المخدّرات والمتاجرة بها.
أما الصوماليّون، من ناحيتهم، فعجزوا عن تشكيل حكومة ائتلاف وطنيّ يلتفّ حولها الصوماليّون ويجعلون منها السدّ الذي يقيهم الاحتمال الهمجيّ الماثل. وهم قبل عامين فحسب كانوا برهنوا عن عجزهم عن إزاحة المسلّحين الأصوليّين، ما اضطرّ الجيش الأثيوبيّ للقيام بالمهمّة، تماماً كما فشل سائر الأفغان قبلهم في إزاحة الحكم الطالبانيّ المتحالف مع "القاعدة"، بحيث اضطرّت الولايات المتّحدة، ردّاً على 11/9، لأن تقوم مباشرة بالمهمّة.
ما من شكّ في أن تطوّرات كهذه تدلّ إلى أخطاء أميركيّة وغربيّة (وأثيوبيّة، في حال الصومال) كثيرة. إلاّ أن هذا، على أهميّته، يبقى تفصيلاً بالقياس إلى ما هو أهمّ، أي ذاك الانحياز العميق الذي تبديه شعوبنا، أو قطاعات عريضة منها، في لحظات الانعطاف المصيريّ، لمثل هذه الخيارات البائسة والكارثيّة.
وقد يصحّ القول إن تحسّن الأوضاع الاقتصاديّة ونشأة طبقات وسطى حديثة وقويّة نسبيّاً، ومن ثمّ إقامة نصاب سياسيّ مستقرّ، ضمانات ضدّ تلك الاحتمالات الرهيبة. لكنْ كيف يمكن التوصّل إلى الاستقرار الأمنيّ الذي هو الشرط الأوليّ الشارط لإطلاق مشروع كهذا؟
إن المهمّة التي تتعفّف المنطقة، بسياسيّيها ومثقّفيها وسائر نُخبها، عن الخوض فيها هي المهمّة التي لا مهرب من مواجهتها. فإن لم يتمّ التصدّي لها اليوم اصطدمنا بها في الغد بشروط أسوأ وأصعب. وإن مضينا في تأجيلها تركنا القوى المماثلة لـ"القاعدة" و"طالبان" و"الشباب" تأكل أخضر مجتمعاتنا ويابسها. والمقصود تحديداً، طرح الإصلاح الدينيّ على الطاولة ومباشرة الفرز والتمييز بين الإيمان كمسألة ضميريّة وفرديّة وبين الشرعيّة السياسيّة التي تدخل في نطاق الزمنيّ المحض وعلى ضوئها وحدها يصار الى تنظيم الفضاء العامّ. فمن دون تحصين المجتمعات والثقافات بهذين الإصلاح والتمييز، سيبقى الاستقرار أضعف من أن ينتج شيئاً مثمراً ومن أن يقف في مواجهة الهياج الجمعيّ، الكامن منه والمعلن. وفي المعنى نفسه، يبقى في وسع أيّة أزمة، اقتصاديّة كانت أم متعلّقة بالتوازنات العصبيّة أم غير ذلك، أن تنتهي بنا إلى أفق خرابيّ ذريعته المقدّس في مقابل المدنّس.
إن الجبن ليس الناصح الأفضل لتفادي الاندثار، حتّى لو أسميناه حكمة وتعقّلاً واعتدالاً، مكتفين بصبّ جام الغضب على من "يشوّهون الإسلام فيما الإسلام منهم براء".

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية