من جملة المعاني التي انطوت عليها ورقة جلالة الملك النقاشية الثالثة، رؤية جلالته لدور الملكية في المرحلة المقبلة، والتي هي جامع الأردنيين ونبض وجدانهم، والذائد عن قيمهم وقضاياهم، والمنتصرة للضعفاء بينهم. إنها ملكية دستورية على الطراز الأردني؛ ضامنة للمنجزات، وموجهة استراتيجية للدولة، ومحافظة على قيمها المتمثلة في الاعتدال والاتزان والسعي المستمر إلى الحداثة.
الورقة تضع المشهد السياسي في نصابه القويم والدقيق، بعيدا عن أي تفسيرات وتحليلات حمّلت الأمور ما لا تحتمل، متأثرة بالضبابية التي تسود حراك تشكيل الحكومة البرلمانية. ففي خضم متابعة تشكيل الحكومة البرلمانية، والتعقيد المصاحب لهذه العملية غير المسبوقة، تجد البيئة وقد تخصبت لتفشي نظرية المؤامرة التي تنظر إلى ما يجري من قبيل أنه "تشويش مخطط له"، لكي "يكفر الناس بالإصلاح وساعته"، ويخلصوا بشكل لاإرادي إلى أن المجتمع الأردني ونوابه غير جاهزين لهذه الخطوة السياسية النوعية!
أصحاب هذه القناعة يعتقدون أن نجاح برلمان فردي غير حزبي في تشكيل حكومة برلمانية هو أمر مستحيل، وكان الأحرى وضع العربة خلف الحصان من خلال قانون انتخاب يسمح بولوج برلمان حزبي. وهم يقولون إنه في حال فشل مجلس النواب في تشكيل الحكومة، فستعود الأمور إلى حالها الأول، وهذا ما يريده كثيرون وما تضمره الدولة. وفي حال نجاح مجلس النواب، فإن الحكومة البرلمانية المقبلة ستكون مضطرة لا محالة لاتخاذ قرارات غير شعبية، أمليت عليها بسبب الفساد وتشابك السياسة بالتجارة. وهذه القرارات بدورها ستدفع الناس إلى نبذ تجربة الحكومة البرلمانية الوليدة. أما إن لم يتم اتخاذ هذه القرارات غير الشعبية، فسينكل بالحكومة البرلمانية، وهو ما ثبتت جدواه في أكثر من مناسبة. 
وما عزز هذه القناعات عزوف بعض النواب والكتل، وترددها، عن ترشيح اسم رئيس وزراء جديد، الأمر الذي قُرئ على أنه انتظار "لتوجيه" من الدولة حول حقيقة المطلوب.
تفكير من هذا الطراز مؤسف، ومفرط في التشكيك والمؤامراتية، ويحمّل الأمور ما لا تحتمل، واضعا بين السطور ما لا يجب أن يكون. فلماذا لا نرى الأشياء كما هي، ونقابل توجه الدولة إلى أن تعهد لمجلس النواب بتشكيل الحكومة بنوع من التفاعل الإيجابي؛ ونسمي الأشياء بمسمياتها، وهو أن المجلس ربما تم انتخابه بقانون جدلي، ولكن أي قانون انتخاب ذلك الذي لن يكون جدليا؟! مجلس النواب ليس فيه أحزاب، ولكن فيه كتل، الأصل أن ترتقي وتتغلب على تصدعاتها الداخلية واضطراباتها الائتلافية.
من غير المعقول ولا المقبول أن ننظر إلى ما يحدث على أنه "خطة" أو "مؤامرة" لنسف الإصلاح وتشويهه، بدلا من إحقاقه. والأجدر بنا، مجتمعا ونخبا، أن نرى ما يحدث على أنه طبيعي، وليس محاولة لتشويش رؤية الناس تجاه الإصلاح وتلويث الديمقراطية. ألم تقل الدولة إن العملية ستكون معقدة وطويلة، وقد تتطلب أشهرا؟ أليس هذا ما يحدث في العديد من الديمقراطيات البرلمانية؟
ورقة جلالة الملك الثالثة تدلل بقوة على أن الديمقراطية البرلمانية مصلحة عليا للدولة التي لم تشأ فقط تحقيق ذلك، بل هي تمتلك رؤية متقدمة أيضا لدور الملكية الدستورية الأردنية. وهذا شأن ليس باليسير بالنظر إلى حداثة التجربة، ويقينا أنه سيتحقق، لأن من خلفه عزيمة ملكية راسخة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د. محمد حسين   جريدة الغد