عرفت اليهودية الدولة الدينية قبل الميلاد بنحو ألف سنة. فقد صار النبي داود عليه السلام، ملكاً لبني إسرائيل، ومن بعده ابنه النبي سليمان عليه السلام، الذي صار ملكاً هو الآخر. ففي الجمع بين النبوة والملك، وعلى أساسه، تشكل نظام كهنوتي ظل قائماً في الدولة اليهودية حتى الاحتلال الروماني وظهور المسيحية. بعد ذلك، لم تقم لليهود دولة إلا كيانهم الحالي على أرض فلسطين، والذي يقيم نظاماً علمانياً. لكن الأحزاب الدينية المتشددة ذاهبة فيما يبدو بثبات للإطباق عليه.
المسيحية بدورها لم تنظر إلى السلطة السياسية بقدر ما اهتمت بإعلاء قيم العدل والتسامح والمحبة والسلام، بصورها المطلقة الجامعة؛ سواء بين الناس أنفسهم، أو بينهم وبين السلطة الحاكمة. لكن بعد أن اعتنق ملوك الرومان المسيحية واستغلوا الكنيسة لاحقاً لخدمة نفوذهم، سقطت الكنيسة في أتون اللعبة السياسية في الممالك الأوروبية، وصارت (الكنيسة) شريكة في السلطة السياسية، أو مهيمنة عليها، حتى بزوغ عصر التنوير في أواخر القرون الوسطى.
في الإسلام، قاد الرسول صلى الله عليه وسلم، المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية في مرحلة ما قبل الدولة، وترك للناس أمر اختيار قادتهم، ونظام الحكم الذي يرتضونه. ولهذا، لم يعرف المجتمع الإسلامي في عصر الخلافة وصدر الإسلام نموذج الدولة الدينية. فالرأي السياسي هو الذي حكم الموقف في بداية عصر الخلافة وعند نهايته؛ أي منذ الانقسام على الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، في سقيفة بني ساعدة، مروراً بالنهاية المأساوية لخلافة عثمان رضي الله عنه، ومقتله على أيدي الثوار من الأمصار، وانتهاء بالفتنة الكبرى في خلافة علي كرم الله وجهه، والتي قسمت الأمة بين معسكرين سياسيين، لبسا لاحقاً لباساً دينياً مذهبياً؛ شيعياً وسنياً، ما تزال الأمة تعاني من آثاره إلى اليوم.
بعد الخلافة الراشدة، ظلت الدولة العربية الإسلامية طوال تاريخها، منذ الدولة الأموية، دولة علمانية بمطلق المعنى الاصطلاحي، وكذلك كانت الدولة العثمانية. ويرجع ذلك إلى أن الإسلام ليس فيه نظام كهنوتي يؤسس لمرجعية دينية مؤسسية مستقلة، مما يقطع الطريق على قيام سلطة دينية في الدولة، تشارك السلطة السياسية مسؤولياتها وصلاحياتها أو تهيمن عليها. فلم تنشأ لذلك حتى الآن مرجعيات دينية مؤسسية مستقلة في الدولة العربية أو الإسلامية السُّنّية؛ كما لم يظهر من الفقهاء والعلماء السُّنّة من يدعو إلى إنشائها.
حضور الرأي الشرعي، أو تطبيق الشريعة، في تاريخ الدولة الإسلامية ظل بعيداً عن السلطة السياسية، وغير ملزم لها، ما عدا دولة إيران المعاصرة. وحتى قيام الدولة العثمانية، كان تطبيق الشريعة محصوراً في القضاء، للفصل في القضايا بين الناس في المعاملات وفي الأحوال الشخصية، وأوكل القيام به لعلماء الدين. وفي الدولة العثمانية، تشكل القضاء الشرعي المؤسسي، وقامت دائرة الإفتاء، وأخذا دوراً في التشريع للمجتمع، ولكن بالقدر الذي تنظر فيه السلطة السياسية بصفتها السلطة التنفيذية التي تشرف على شؤون البلاد وتدير أجهزتها الإدارية. وقد استمرت سلطة يقودها السياسيون وليس رجال الدين.
السلفيون المعاصرون يقفزون فوق كافة الحقائق التاريخية، ويدعون إلى إقامة دولة إسلامية. وهم لا يقدمون لذلك حتى نموذجاً أولياً لنظام الحكم المقترح، ولا يفسرون دولتهم بأكثر من إعادة دولة الخلافة، وتطبيق الشريعة الإسلامية. والخلافة بنظرهم هي الخلافة الراشدة، والخليفة هو من يختاره أهل الحل والعقد. والغريب أنهم يتمسكون بنموذج الخلافة الراشدة على الرغم من الفشل الذريع الذي منيت به تلك الخلافة؛ إذ قُتل ثلاثة من الخلافاء الأربعة، واختتمت بانقسام آل البيت والصحابة وتقاتلهم شر قتال، حتى آلت الخلافة إلى من لا يستحقها من الأمويين، فجعلوها وراثة. ثم تفرق المسلمون إلى سنة وشيعة يتحاربون فيما بينهم، ويكفرون بعضهم بعضاً حتى يومنا هذا.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. عاكف الزعبي جريدة الغد