لدي شعور طاغ أن أشهر المأكولات الشعبية في الأردن وهو المنسف، في طريقه إلى الانقراض، وسيتحول إلى أحفورة صخرية في ذاكرتنا الجمعية، وسيغدو سؤال: متى آخر مرة أكلت فيه المنسف، مترددا على ألسنة الآلاف من المواطنين، إن لم يتحول فعلا، بوصف هذه الأكلة صارت صنفا نخبويا جدا، حتى ولو كانت على دجاج، فما بالك باللحم البلدي والجميد الكركي والسمن البلقاوي؟؟

أتخيل أن المتحف الوطني سيضم زاوية خاصة بالمنسف، سنقرأ على بابها لافتة تقول: هذا ما بقي من أشهر الأكلات الأردنية، وستضم في زواياها بضع حبات من الجميد، وجمجمة وعظام خروف بلدي، وسدرا فيه حبات ناشفة من الأرز، وآنية شراب، وصورا تذكارية لآخر من تناول هذه الأكلة من الفقراء، وما شابه مما يبقى من آثار بعد وجبة منسف حقيقية

وأتخيل أن كتب التاريخ ستضم فصلا خاصا بالأكلات التي سادت ثم بادت، وسيحتل المنسف وحدة كاملة، تتحدث عن تاريخ هذه الأكلة وكيف كانت في يوم ما شعبية، ثم غدت نخبوية، وسيأتي يوم يسأل تلميذ معلمه أو والده: شو يعني منسف ؟ وسيحك المسؤول جبينه في حيرة بالغة محاولا إن يتذكر: متى كانت آخر مرة أكل، أو شاهد فيها منسفا؟ وسيقول بعد تنهيدة كبيرة: إيه يا ولدي، كان هذا منذ وقت طويل جدا، حتى أنني لم أعد أذكر متى، ما أذكره يا بني أن هذا كان في بداية الألفية الثانية، حين تعولمنا وأدركتنا موضة تحرير أسعار المحروقات، والخصخصخة، وتغول اقتصاد السوق

وأتخيل أيضا، أن أمين عاصمتنا في وقت ما، سيكلف أحد النحاتين لأنشاء منحوتة أو صرحا للمنسف، وسيخصص أحد الدواوير الرئيسة لاحتضان هذا النصب التذكاري، كي تتذكر الأجيال القادمة أنه كان لدينا في وقت ما أكلة شعبية تسمى المنسف، وأتخيل أيضا أن احتفالا مهيبا سيقام في ميدان المنسف، حيث يقوم الصرح التذكاري له، يجري فيه ذكر فضائل هذه الأكلة وذكريات كبار السن عنها، وكيف كان الرجال يتبارون في شق طريقهم وسط الأرز، ويتشارطون أيهم أسرع في الوصول إلى الطرف الآخر من السدر، كما ستروى في الاحتفال طرائف وحكايات الرجال حين كانوا يتحلقون حول المنسف، قبل أن ينقرض ويغدو فلكلورا شعبيا، يقيم في الذاكرة الجمعية

قبل أن نصل إلى هذه المرحلة، أقترح أن تخصص الحكومة يوما وطنيا للمنسف، نودع فيه هذه الأكلة، ونأخذ الصور التذكارية معه، ونعمد إلى الاحتفال سنويا بهذه المناسبة، مناسبة تناول: المنسف الأخير، على غرار العشاء الأخير

ملاحظة خارج النص:

بالمناسبة، وطني ليس منسفا يتبارى الأَكَلةُ في التهامه، كل واحد وذراعه وما يطول، وأنا لست خروفا، مع الاعتذار لمحمود درويش القائل: وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر


المراجع

addustour.com

التصانيف

صحافة  حلمي الأسمر   جريدة الدستور   العلوم الاجتماعية