سأنحي اليوم كل مسببات الصداع : فوضى «الربيع» في عز الشتاء، ووعوده المخاتلة، وسأنحي نتائج الانتخابات البرلمانية ووجعها، ومهاتراتها، سأنحي مصر ووجعها الذاتي واحتفالاتها في العيد الثاني لإسقاط النظام بالمطالبة بإسقاط نظام لم يقم بعد، سأنحي سوريا (إن استطعت)، يا وجع الشام المزمن، أنى لهذا الدم أن يعود إلى شريانه متدفقا بالحياة، بعد أن انداح في الشوارع والأزقة؟ سأنحي كل «بوستات» الفيس، و»تغريدات» التويتر، سأنحيني أخيرا، وقد حولتنا اليوميات الهائجة إلى كائنات سياسية، تتنفس أحداثا، وتنبض حروفا مضمخة بالأخبار العاجلة

سأنحي شاشة الحاسوب، وشاشات الفضائيات، بردحها وصدحها، واستعراضات المتفيهقين، بعد أن أصبحت برامج «التوك شو» أكثر جاذبية وانتشارا من فيديو كلبّات التعري، والإغراء، سأنحي هذا المخلوق العفريتي الذي يسمى «موبايل» وهو لا يكف عن تنبيهاته المستعجِلة، معلنا عن اقتحامات متتالية وانتهاكات مفاجئة لأي خلوة، حتى حينما «تكتم» صوته يصر على تمرير مندسين غرباء إلى «سجله» بانتظار النظر فيما يريدون

سأنحي كل ما ذكرت، وأمضي إليّ، إلى غرفتي السرية، لأبحث فيها عما يعيدني إلى آدميتي ولو برهة من تأمل، أو هدوء، أو استرخاء، ولو كان افتراضيا، بعد أن غلب على حياتنا اليومية عوالم افتراضية، ألغت الزم _ كان حسب نظرية أينشتاين، فلا زمان ولا مكان، بل حضورا في النصف الثالث

سأمضي إليَّ، بعد أن كدتُ أنساني، فلا أعود أتذكر ملامحي الأولى: كائنا بريا، يعدو في فضاء لا يفضي إلا إليّ

سأمضي إلى فنجان قهوة، بلا قلق أو أرق، مُزيّن برغوةٍ وحَبَبٍ فوضوي، يذهب بي بعيدا، متخيلا إقامة مستحيلة داخل واحدة من حُبيـْباته، كأنها كبسولة فضائية معزولة، لا تسمع فيها غير أنفاسك، ودقات قلبك، بعد أن اشتقت كثيرا لسماع هذه الموسيقى العفوية، الضائعة وسط الضجيج

سأمضي إلى أقحوانة، أو زنبقة، أو زهرة لوز، لأبحث فيها عن أمنية خبأتـُها منذ سنين، فعتـّقها النسيان، وخَمـّرها الندى سأمضي إلى مقعد صخري فوضوي في الذاكرة، صَنـَعتـْه عوامل الحت والتعرية، في بطن جبل، كنت تأوي إليه في طفولتك الأولى المبكرة، ملتصقا بأبيك التراب، ملتحفا بأمك السماء، لتغمض عينيك، كي ترى ارتحالاتك في جوف السنين، لعلك تستعيد شيئا من أحلامك البكر، وأمنيات كانت مرتجاة، فغدت عبئا يثقل الوجدان

سأمضي إلى بطن أمي، قبل أن «يُحْكَمَ» علي بالحياة موتا، أو بالموت حيّا، باحثا عن طريق سري منسي يعيدني إلى «مشيمة» مفروشة بالحنين، سأمضي إلى سرير من أثير، يتهادى مهملا على ظهر غيمة، لعلني أهمي مطرا، وأنتشر قطرات تغفو في بطن الأرض، فلا تصحو إلا على وقع السنابل المشرئبة إلى السماء

سأمضي إلي، فأنا لست أنا وأنا بعيد عني، ما أجمل أن يعود المرء إليه


المراجع

addustour.com

التصانيف

صحافة  حلمي الأسمر   جريدة الدستور