ضياء الحق عبد السلام
باحث في الإقتصاد الإسلامي
 
الحاجة إلى إعادة النظر في العلوم الاجتماعية يرجع إلى الأزمة المعرفية التي يشهدها العالم اليوم، فالمعرفة التي تسود العالم ما هي إلا نتاج ذهنية تعتقد في وجود يقتصرعلى عالم الشهادة، فبالتالي حيّد الوحي كمصدر للمعرفة؛ لما يمثله لعالم الغيب التي أيقنت أصول تلك المعرفة برفضه، وقد كانت تلك المعرفة وليدة ظروف تاريخية في أوربا تصارعت فيها الكنيسة مع العلم، وانتهى الصراع بقيام آراء تنادي بإقصاء الدين عن الحياة. وقد شهدت العلوم الطبيعية في ذلك الوقت نجاحاً جلياً في الكشف عن كنه الظواهر الطبيعية فألحقت بها العلوم الاجتماعية؛ لتتخذ النموذج أداة تفسر من خلالها الظواهر الاجتماعية، ولخلق إطار أشبه بالمختبر المعزول الذي تجرى فيه التجارب في العلوم الطبيعية، وكان تبني مفهوم يرفض وجود فكرة إله خارج نطاق الظواهر الاجتماعية؛ أي أن الظاهرة تحتكم إلى سلوك داخلي ينبع من المجتمع. وعلم الاقتصاد باعتباره أحد العلوم الاجتماعية تعرض لهذا النوع من المعاملة، واتخذ أسلوب جعل فيه الظاهرة الاقتصادية سلوك يرجع إلى الفرد، وبما أن الفرد جزء من الطبيعة يختلف عنها في درجة تطوره فقط؛ لذا لابد له من انتهاز هذه الفرصة لاستغلال الموارد الأخرى بأقصى ما تسمح له إمكانياته من فرص استغلال. كما جاء آدم اسمث (Adm Smith ) في كتابة ثروة الأمم 1776 يدعم هذه الفكرة، فدعى لحرية الفرد، وجعل الفرد هو محور التحليل في تفسير السلوك الاقتصادي، وذكر أن الأفراد إذا ما أعطوا الحرية لتحقيق أهدافهم الانانية فإن اليد الخفية (السوق) قادرة على تخصيص الموارد بدرجة عالية من الكفاءة والانسجام، وهذا يعكس ماكان يعتقده في رشاد الفرد، وقد طورت اليد الخفية في ما يعرف بالتوازن الجزئي الذي جاء به الفرد مارشال (Alfred Marshall) وطوره هيكس(J.R.Hecks) وزاد عليه بول سامويلسون (Baul Samyelson ).
وبصورة عامة فان المفكرين في هذا؛ افترضوا وجود قوتين متعارضتين في السوق؛ المنتجين الراغبين في تعظيم الأرباح والمستهلكين الراغبين في تعظيم المنافع، وهذا يعني أن تصور الاقتصاد تحول من الإيمان باليد الخفية التي تحقق التوازن استناداً لرشاد الفرد؛ إلى الاعتقاد بوجود قوتين تحكمان النشاط الاقتصادي؛ كلتاهما تضمن عددا من الأفراد، كما وضحت أهمية الدخل المحدود وظروف المنافسة في الحد من قوة الطرفين أي الطالبين والعارضين، وجاءت نظرية التوازن العام التي تجمع بين الأسواق لتعطي تصورا لقضاء النشاط الاقتصادي أكثر اتساعاً فذكر فالرأس (walras) أن هناك مجموعهة من الأسعار التوازنية التي يمكنها أن توازن جميع الأسواق في نفس الوقت، وهذا تصور يشمل جميع الأسواق، إلا أن الحقيقة التاريخية التي تثبت وجود الكساد العظيم جعلت الاقتصاديين ينظرون إلى ضرورة تدخل طرف ثالث بشيء من الاهتمام، فذكر كنز(Keynes) في كتابه النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود أن الكساد قدم برهان تجريبي لفشل فكرة التقليدية في استقرار الاقتصاد الكلي، وبعث الشك في وصفاتها السياسية الأساسية التي تنص على وجود ميلان ذاتي تجاه التوازن مع الزمن، وعلى الدولة أن تلعب دوراً حيادياً خلال فترات الكساد والبطالة، فيتسع النشاط الاقتصادي المثالي ليشمل الدولة كطرف يسهم في حل مشاكل تتعلق بالبطالة، وفي الآونة الأخيرة بدأ الجدل يتصاعد حول التنمية المستدامة ومتطلباتها ومراعاة الظروف البيئية؛ وذلك لما شهده العالم من مشكلات بيئية شكلت خطراً على إمكانية استمرار البشر في استغلال الموارد، وبهذا تكون الظروف البيئية قد أصبحت جزء من الفضاء الإقتصادي والذي يجب مراعاته.
وما ذكرته من مراحل مر بها التصور النظري للفرضيات الإقتصادية باختصار وبدون تدقيق؛ رغم انتقاء بعضها في تسلسل تاريخي، أردت به بيان نصوص ذلك التصور منذ البداية، وهذا لايعنى التقليل منه كمساهمة إنسانية ساعدت في حل كثير من المشكلات الجزئية التي واجهت المجتمعات، بل لها أدوات تحليل لايمكن الاستغناء عنها فقط.
أود الإشارة إلى تصور معرفي لفضاء النشاط الاقتصادي الذي يشمل العالم الآخر، وما فيه من جزاء على ماقدم الأفراد من أفعال في هذه الحياة، وهذا ما أشار إليه الإسلام، كما أن مبدأ الاستخلاف والإيمان بالله الواحد، ووحدة الخلق؛ يجعل الأفراد يراقبون الخالق لأن فكرة الجزاء تقتضيها العدالة، لذا لابد من مراعاة ذلك عند تبني أي فرضية تفسر السلوك الاقتصادي للإنسان، وتقرير الرشاد أو عدمه استناداً على هذه المبادئ واتخاذ الوحي مصدر للمعرفة اليقينية، مع الإستفادة من المنهج التجريبي تماشياً مع وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة، وبهذا يكون استنباط الحلول المثلى للمشكلات والعقد التي تعتري المنظومة الاقتصادية.
 

المراجع

شبكة المشكاة الاسلامية

التصانيف

اقتصاد