يبدي المشهد السوري اليوم صراعا شديدا، وتقدما عسكريا للجيش الحرّ مصحوبا بتضحيات كبيرة جدا للشعب السوري الذي يتعرض لقدر هائل من القتل والتهجير والتعذيب. وفي الوقت نفسه، ثمة ارتباك سياسي يكشف عن حيرة وأفق مسدود؛ وكأن سورية تمضي إلى حرب أهلية مديدة، يملك العالم خبرة طويلة وحزينة في التعايش معها وإدارتها: مراكز آمنة، وأطراف متمردة، وهيئات وبرامج للإغاثة والمساعدة، وسيادة طائفية ومحلية تنشئ استقرارا ما.. وديمقراطية أيضا! فليس ما يمنع أن تكون سورية مختلفة عن العراق وسائر البلاد والحروب الطويلة المنسية!
يمكن الردّ على هذه المقولة بأن العالم يبدي حزما وتماسكا في مواجهة النظام السوري، ورفض ممارساته ومجازره الوحشية، ولن يدعه يفلت بجريمته. وأنه قد انتهى إلى الأبد أن يُترك نظامٌ سياسي يبيد شعبه. فقد حدثت من قبل تدخلات دولية حاسمة لأهداف إنسانية؛ في البوسنة والهرسك، وكوسوفا، وتيمور، وليبيا، وأفريقيا.. وصار ذلك تقليدا عالميا متراكما وراسخا، ولن تكون سورية استثناء، ففي النهاية، سيضع العالم حدّا لهذا النظام السياسي المتورط في المذابح والإبادة، ويريحه من نفسه، كما يريح شعبه والعالم منه! ولا بأس بها من فكرة على أي حال، ولكن ها هم ضحايا الإبادة يقتربون من مائة ألف قتيل، وربع مليون معتقل يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب، ومليون لاجئ ومشرد! فماذا ينتظر العالم بعد حتى يساعد الشعب السوري؟!
ويبدو أيضا أن العالم يعيد النظر في حساباته مع الربيع العربي والثورات العربية ومآلاتها؛ فهي من وجهة نظر "ما"، تؤدي إلى تقدم الأغرار والمتطرفين! ولم تغير في مستوى حياة الناس وحرياتهم. وهذا حكم مبكر بالطبع، ولكن يبدو صحيحا في مرحلة البداية على الأقل. كما أن مسؤولين غربيين عبروا أكثر من مرة عن هواجسهم هذه تجاه الربيع العربي.
هناك جدل ولغط كبيران حول صعود "القاعدة" والمتطرفين في وسط الثورة السورية. ومؤكد بداهة أن جهات ومؤسسات دولية تبدي قلقها وتخوفها من ذلك؛ ومؤكد أيضا أن ثمة ترحيبا خفيا وتركيزا مبالغا فيه على الظاهرة. ولا يفوّت المتطرفون فرصة (غباء أو استدراجا أو خيانة للثورة) في التعبير عن سلوكهم الشاذ والشائن؛ من ذبح وجلد، وعقوبات وتصريحات، تثير الخوف والقلق على مستقبل سورية والمنطقة بأسرها إذا وقعت في قبضة المتطرفين. ولا يجوز التهوين من شأن الظاهرة والخوف منها، برغم احتمال صحة أن تكون جماعات تحركها وتدفعها دول معادية للثورة السورية؛ فمن المؤكد في جميع الأحوال أن ثمة قبولا واستعدادا ودوافع للمشاركة في العنف والتطرف وتأييده وقبوله، وإنه لأمر محيّر يصيب بالإحباط!
فالشعوب والمجتمعات في توقها ونضالها لأجل الكرامة، تبدو وكأنها وقعت في فخ محكم، مثل لعبة "مونوبولي" اللعينة. فهذه التضحيات والمساعي النبيلة الدؤوبة، تمضي بالناس إلى الابتزاز القاسي، وكأنه لا خيار لهم سوى الاستبداد والهيمنة والوصاية؛ خيارات تبدو جميعها بائسة مرعبة: استقرار في ظل دكتاتوريات ذات خبرة في الحكم والإدارة والمجتمعات والناس، أو حرية وديمقراطية مع الفوضى والأغرار والمتطرفين.. وربما تنشأ دكتاتوريات دينية تنتهك الحريات الشخصية والاعتقادية والاجتماعية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد