التدخل الحكيم من قبل جلالة الملك عبد الله الثاني في تجميد قرار الحكومة رفع اسعار البنزين أنقذ البلد من أزمة سياسية حقيقية وكبيرة كانت تتراكم ساعة تلو الأخرى وتنذر بعواقب وخيمة. التدخل الملكي والذي خفف انزعاج المواطنين وتأثيرات القرار عليهم، لا يلغي الخطأ الكبير الذي وقعت به الحكومة والذي سوف يؤثر تماما على ما تبقى لها من ايام، إذ يبدو من الصعب جدا في ظل ردود أفعال الرأي العام ومجلس النواب أن تتمكن الحكومة من اتخاذ قرارات حاسمة في المستقبل القريب. لقد كان يمكن، وبالحد الأدنى من التفكير “متوسط المدى” وليس فقط بعيد المدى تلافي هذا الصدام والذي سينعكس بشكل كبير على دور الحكومة في قادم الأيام، مهما كان عددها.

لا يستطيع أحد أن “يفتي” بالسبب الذي جعل الحكومة ترفع الأسعار فورا بعد خروج المواطن الأردني منهكا ومهزوما من المعركة الثلاثية التي واجهها في مصاريف شهر رمضان والعيد والمدارس وفي توقيت اقل ما يقال عنه بأنه غير مدروس. ليس من قبيل السخرية ابدا الملاحظات والنكات التي انتشرت عبر وسائل الاتصال الاجتماعي ومفادها أن الحكومة اصبحت شريكة مع “الحراك الشعبي” في التحريض على التغيير وتهديد “الاستقرار”- في حال كنا مقتنعين بهذا التفسير- لأن الحراك لو استمر في مسيراته لعشر سنوات لن يخلق حجما من الغضب والتوتر لدى الرأي العام الأردني مثل قرار رفع البنزين. إذا كانت المسألة تتعلق بتفاهمات مع صندوق النقد الدولي ضمن شروط لمنح الأردن القروض المتفق عليها فهل غاب عن الفريق المفاوض في الحكومة اي شخص قادر على إقناع صندوق النقد الدولي بأن التبعات السياسية لهذا القرار تلغي أية مكاسب اقتصادية ممكنة وتهدد كل مشروع الإصلاح السياسي والاقتصادي.

في المذكرة المنشورة على موقع صندوق النقد الدولي ومؤرخة بالثالث من آب الماضي يشير الصندوق بأن أهم التحديات التي ستواجها الحكومة الأردنية في تطبيق القرض الجديد تكمن في “اتخاذ خطوات على المستويين القصير والمتوسط لتخفيض النفقات وإصلاح النظام الضريبي وفي نفس الوقت حماية الأردنيين من اصحاب الدخل المحدود” وهذا يعني أن الصندوق نفسه يعترف بضرورة الحذر في اتخاذ القرارات، فلماذا هذا “الكرم” من جانبنا؟ المذكرة نفسها تشير ايضا إلى ضرورة اتخاذ قرارات “استعادة الكلفة” في شركة الكهرباء وهذا طبعا لن يتم إلا عن طريق رفع التعرفة على المستهلك، وهذا توجه يجب أن يكون واضحا وبطريقة شفافة وان يناقش مع القوى الاقتصادية والسياسية قبل اتخاذ أي قرار.

لو كان ثمة تفكير استراتيجي بعيد الأمد لما تم اتخاذ قرار كهذا مهما كانت المبررات الاقتصادية ومهما كان المبلغ المالي الذي سيتم “توفيره”-في حال كنا نؤمن يوجود دعم- أو “جبايته”- في حال لم يكن هنالك دعم- لأن الكلفة السياسية هائلة، وخاصة في سياق إصلاح تدريجي سوف يؤدي إلى حكومة برلمانية منتخبة بعد اشهر يمكن لها أن تتحمل مسؤولية مثل هذه القرارات وما يتبعها من قرارات رفع اسعار الكهرباء وسد عجز شركة الكهرباء، وبالتالي تجنيب النظام السياسي بأكمله الحمل الثقيل لهذا القرار. لو كان ثمة تفكير اقتصادي استراتيجي لتم اقتراح بدائل اقتصادية وتسعيرية أخرى وعدم ترك أي خيار دون التفكير به مليا وطرحه على طاولة الحوار مع ممثلي المجتمع من أحزاب ونواب ونقابات ومجتمع مدني، ولكن القرارات الأحادية لا تجلب إلا المتاعب.

هذه تجربة نتمنى أن يكون الجميع قد تعلم درسا منها وخاصة...الحكومة القادمة


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  باتر محمد علي وردم   جريدة الدستور