فاجأني السائق المهذب الذي تصرف باحتراف بالغ، ذكّرني بسلوك السائقين في بلاد أوروبية متقدمة، فلا يجلس الراكب إلا في مكانه المفترض في الخلف، حيث يفصل حاجز زجاجي بينه وبين السائق، يتيح لكلّ منهما خصوصيته، يتم ذلك بشكل طبيعي من دون أن يُعدّ ذلك استهانة أو قلة احترام للسائق.
غير أن ما يحدث في الأردن مختلف تماما؛ إذ غالبا ما يصر سائق التاكسي على الركاب الرجال الجلوس بجانبه، تحت طائلة التهديد بإنزالهم من التاكسي، في حال عدم الاستجابة لرغبته، وقد يسمع الراكب جملة، (أنا مش شوفير اللي خلفك)، حدث مثل هذا الموقف مع الشاعر أمجد ناصر، وكتب حينها في صحيفة القدس العربي مقالا جميلا، سرد فيه تلك الواقعة غير الطريفة، حين أقدم على الجلوس في الخلف بجانب زوجته، متأثرا بسنوات إقامته الطويلة في لندن ما سبّب امتعاضا للسائق الذي أبدى احتجاجه على سلوك الشاعر المتعالي، بحسب وجهة نظره.
حادثة مشابهة حصلت مع الشاعر الراحل محمود درويش حين كان بصحبة أحد أصدقائه في طريقه لتناول الغداء، فبادر درويش إلى الجلوس مجاورا للسائق العصبي اختصارا للشر!
سارع السائق اللطيف -الذي أقلّني ذات صباح ليس ببعيد- إلى خفض الراديو الذي كان يبث موسيقى كلاسيكية ناعمة، كما بادر إلى إطفاء سيجارته حال صعودي للسيارة التي كانت نظيفة جدا، وخالية من تلك الإكسسوارات الفجّة التي تجعل بعض سيارات التاكسي تبدو مثل ملهى ليلي، ولم يكن على "التابلوه" سوى البطاقة الشخصية التي تتضمن بيانات السائق بشكل واضح.
والعداد لم يكن معطلا! ولم يسألني قبل أن أستقل سيارته عن وجهتي؛ لأنه يدرك أن مهمته وبحكم القانون إيصال الركاب حيث يرغبون، حتى لو تعارض ذلك مع مزاجه الشخصي، ولم يحاول خلال الطريق التظارف أو فتح حوار حول الأحوال "التعبانة"، أو تحليل الأوضاع السياسية أو سرد قصة حياته التي لن تخلو من مبالغات، وقاد سيارته بهدوء واتزان وصمت، ملتزما بقواعد المرور، ولم يفتح نافذة السيارة في أي مرحلة؛ كي يبصق أو يلقي القمامة أو يشتم مَن ارتكب إثما مروريا غير فادح. اعتبرت نفسي محظوظة لمصادفتي هذا السائق الأنموذجي غير المتوفر بكثرة في شوارعنا للأسف؛ ذلك لأن استخدام سيارة تاكسي في عمان لا يعد تجربة لطيفة في معظم الأحوال؛ فمعظم السائقين لا يدركون طبيعة العقد المبرم بينهم وبين الركاب الذي ينص على تقديم خدمة النقل في ظروف مريحة، لا تسبّب أيّ إزعاج مقابل أجر محدد. وللإنصاف، فإن الأجرة المقررة في الأردن ما تزال تعد زهيدة مقارنة بدول كثيرة، والإحباطات التي يعاني منها العاملون في هذا القطاع أكثر من أن تحصى.
غير أن ذلك لا يبرر رداءة الخدمة، وثمة الكثير من المواقف المؤذية التي تعرض لها مواطنون؛ بسبب تصرفات فجّة يقدم عليها بعض السائقين؛ مثل فرض مزاجهم الموسيقي الهابط، من خلال تشغيل الأغاني غير اللائقة، التي تخدش الحياء وتسبّب الحرج للركاب، خصوصا النساء منهم. ولا ينبغي بأي حال الاستخفاف بهذه الظاهرة التي تعكس صورة سلبية، خصوصا أمام زوار البلد، وكما هو معروف، فإن الانطباع الأول الذي يأخذه الزائر لأي بلد يتأتى من خلال تعامله مع سائقي التاكسي، وانطلاقا من أهمية هذه النقطة فإن رقابة الجهات المعنية بالشأن المروري، هي ضرورة قصوى من دون شك؛ لأن سائق التاكسي هو سفير متجول ينبغي أن يكون مؤتمنا في تقديم الصورة الأكثر بهاءً عن ثقافة وتقاليد وكرم أخلاق أبناء البلد، وهي مسؤولية جسيمة وأمانة لا بد من التيقن دائما من أهلية حاملها.
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة جريدة الغد بسمة النسور