وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ " ... تظلّ هذه الآية من سورة (يس) تذكّرني به، حين كنتُ أصحو ليلاً، من رجفة الغطاء الخفيف، والعائلة كلها تنام في غرفةٍ واحدة، فأجده جالساً يقرأ القرآن بصوته المترقّق المتهدج، وهو يضع لحافه على كتفيه، ويغالب دمع الخشوع، .. فأظلّ منصتاً له، ينتابني ورعٌ لا أعرفُ وأنا الطفل كيف أبرهنه، فأروحُ أحمل بطانيةً أضيفها على جسده النحيل، فيبتسمُ لي من خلف النظّارة المكبّرة، ويظلّ يقرأ .. وأظلّ أنتظر الآية الأخيرة من سورة (تبارك) التي ما إن أسمعها ( أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ معين ) حتى أعرف أنه بعدها، كما كلّ ليلةٍ، سيطوي كتابه، ويقوم ينفخ على صوبة الكاز يطفئها .. وينام !
كان أباً عادياً، ليس أكثر .. ، لكنني أتحسس الآن اسمه في دفتر العائلة فتصاب كفّي بالوحشة، وأنني معلّق في الفراغ بلا أحد، وانني صرتُ وحيداً مثل ... ولدٍ بلا أب !!
كان يلزمني اسمه، وتلزمني ضحكته التي لم أفهم كيف ولدت له فجأة في شيخوخته .. لم أره يضحك أبداً في خمسينيات أو ستينيات عمره، .. كان ثمة الكثير الذي يؤرقه، وحينَ أنزلَ حِمله الذي أنقض ظهره، صار يضحك بشهيةِ .. مبالغ فيها أحياناً !
طيبٌ، طيب كطفل .. ومع أنه سلّم قهراً بأن الإحتلال أخذ أريحا، وأغلق مزرعته على دجاجاته في "مخيم عقبة جبر"، لكنه يظلّ يتحدث عن تلك الدجاجات كما لو أنهن الآن بعد 43 سنة ما زلن يتراكضن هناك بمناقير مفتوحة ينتظرن كمشة العلف من يده !
ربما كان يواجه الإقتلاع والنسيان.. بالتذكر .
***
.. ويقول لي : لمّا شَرَدنا من البلاد مشياً إلى عمان، كانت الطائرات العدوّة تحلّق فوقنا، وكنتَ انتَ طفلاً نزقاً، بكاؤك يفضحنا، فخبأتك تحت جسر صغيرٍ مهجور، ومشينا من دونك، (يضحك ثم يكمل لي مبرراَ) خشيتُ ان تسمع الطائرات صوت بكائك فتدلّها علينا وتقصفنا، .. لكن بكاء أمك جعلني أعود لاحملك، لتواصل العائلة رحلتها الماشية، لنصل الى "عيرا ويرقا" ليلاً !
***
كان أباً عادياً، .. ليس اكثر، لكنني حين أمدّ الآن عينيّ إلى "مخيم الوحدات" الذي تمسّك به وكان يرفض أن ينام ولو ليلةً واحدةً خارجه، أراه وقد صار أرضاً غريبة عَلَيّ، ما عدتُ أحسّه شقيقي !
أفهم الآن رجلا قضى نصف عمره بائعاً جوّالاً يبحث عن الخبز الحاف وراحة البال، ويحثّ أولاده ان لا يقربوا السياسة .. كان يخافُ على أولاده كأي مسافرٍغريب، ويخاف على حاجياته، فقضى أكثر من أربعين سنة يربّي الحمام، ويمنعه أن يطير .. كان يخشى دائماً ان يخرج الحمامُ صباحاً فلا يعود للبيت !
كان طيباً، و .. يُضحكني من قلبي حين يظّل يسألني إن كان النواب قد أقرّوا (قانون المالكين والمستأجرين)، ومرّة طلب مني بمنتهى الجدية ان آخذه للبرلمان ليحضر نقاشات القانون .. لأنه يريد دائماً أن يكون صاحب حجّة قويّة مع الأرملة المستأجرة عنده، غرفةً صغيرةً مليئةً برائحة الرطوبة، بثمانية عشر ديناراً في الشهر مع الماء والكهرباء !!
***
كان طيباً، كأي أب، أتذكر الآن تفاصيله الصغيرة: كيف يضمني لصدره النحيل في الملجأ والحرب تأكل الأولاد في الشارع، الراديو الذي يقضي النهار يعبث ببطارياته ليسمع الاخبار، هاجسه الدائم أن يظلّ يتفقد (قواشين الأرض) كأنه سيعود غداً، شغفه بمباريات محمد علي كلاي، وحرصه ان أقرا له وصفة أي دواء كاملة قبل أن يتناوله، ثم يسجل بقلمه الرصاص في دفتره الكبير ملاحظاته على مكونات الدواء وأعراضه الجانبية ليعود لها لاحقاً، وحين صار في آخر العمر يكتب عدد الركعات على ورقة ويلصقها على الحائط أمامه وهو يصلي .. ليتذكر !
***
أقول لكم الحقّ ؟
طيلة أكثر من أربعين سنة، لم أشعر أنني لاجىء تماماً، وبشكل بالغ الألم، إلا مرّتين: حين دسست أمي، وأبي، في جارورين من ترابٍ ليس لي، وتساءلتُ يومها من يقول لتلك الأرملة الـ كان اسمها "الرملة"، الـمتصابية الآن بفستانٍ عبريّ، ولا تردّ على "رقمٍ لا تعرفه": كم يتوق الواحد احياناً لبلدٍ تزغرد في عرسه، وتلطم في جنازته، ويبوس كفّها صباح العيد
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد