في المطارات، نتذكر أن للقبلات معنى واحداً، بالهندية والروسية والفلبينية والقشتالية؛ معنى واحداً لا يحتمل التأويل: اللهفة، وحنين المشتاق لعناق الشائق!
لا يحمل المسافرون أبجدياتهم في حقائبهم؛ ففي المطار سيستعملون لغة واحدة، كما لو أن الحياة ابتدأت للتو، واللغات لم توزع على أصحابها بعد!
يقترب منك عجوز ألماني يمسك سيجارته بيده ويضعها على طرف شفتيه فتفهم أنه يطلب ولاعة؛ تشعل له، ويهز رأسه ممتناً قبل أن يمد يده مداعباً رأس طفلك ويمضي.
كم من الكلمات تم حذفها من هذا المشهد، وكم تبدو اللغة أحياناً فائضة عن حاجة الناس.
يقفز طفل هندي من جانبك كأنه تفاحة سقطت عن الشجرة، وتتبعه بعينيك، فتجده يتكوّم في حضن أم وصلت للتو، تنتبه أنك لم تنتبه قبل ذلك: الأمهات هن ذاتهن الأمهات في كل اللغات.
أتذكر فريد الأطرش "ما قلب أمك إن تفارقها ولم تبلغ أشدّك، فهوت عليك بصدرها يوم الفراق لتستردك".. كأن المقطع يصلُح أن يترجم إلى كل اللغات.
رجفة العين الدامعة، الأصابع التي يفركها الانتظار ببعضها، نفثة الدخان الطويلة، الشيب الذي تكاثر في الشعر بعد الفراق، الأب الذي تقوس ظهره من فرط الحنين، النظر إلى الساعة عشر مرات في اللحظة الواحدة، وضع الاصبعين على الصدغين جرّاء الصداع، انشداد العينين الى اللوحة الالكترونية التي تعلن مواعيد الطائرات القادمة، كل ذلك لا يختصّ بشعب واحد، انه الحنين الذي تمارسه كل الشعوب بذات "الكفاءة" في الحزن.
امرأة أربعينية تحمل بيديها حقيبتين اثنتين تطوح برأسها مبعدة شعرها عن عينيها، فتشلع قلوب رجال كثيرين، بغض النظر عن ألوان جوازات سفرهم، ولا يسأل أحد منهم عن جنسيتها؛ هنا تصير الغواية أهم من الرقم الوطني.
يدندن الناس جميعاً بأشواقهم بذات اللحن، يتسكعون في طرقات المطارات بذات الهيئة المضطربة، ويحملون ورداً ينبت في دمشق بذات الألوان التي ينبت فيها في المكسيك أو "جبل اللويبدة".
وحين يجلسون في "الكوفي شوب" كلهم تلذعهم القهوة إن رشفوها ساخنة.
تجلس سيدة في المقهى تضع مفاتيحها وشنطتها على الطاولة، تصلح من وضع قميصها، تشعل سيجارة مرتبكة في انتظار قهوتها، تتوه نظراتها في السقف والمقاعد، تنشغل أصابعها بكتابة "مسج" على الموبايل، وتضحك مع نفسها لأنها تخيلت ردة فعل الذي تكتب له وهو يقرأ كلمة معينة، كل ذلك يمكن أن يحدث لامرأة روسية أو أثيوبية أو عربية ولدت في حي تونسي قديم.
لا أهمية هنا لما يسمى "مكان الولادة" ولا "مكان السكن"؛ فالحياة لا تشترط أن يكون الناس مدججين بكل هذه الهويات والأرقام والتواريخ والأسماء واللغات لتمنحهم لحظة من الودّ الصافي، كأن تريح رأسك على كتف من تحب وتغمض عينيك تماماً.
الكهل الفرنسي بغليونه المنطفئ، الأم الهندية المسنّة بعلامة قومية على جبينها، الخالة الأثيوبية الفاتنة، الرسام الياباني الطويل والأنيق، الشغالة الاندونيسية المحجبة، التاجر المصري الذي يستعرض ساعته المذهبة، والمراهقة السورية التي انتبهت لأنوثتها تواً، كلهم يتجهون الى مقاعد الطائرة في ذات اللحظة، ويحيون بعضهم بهزة رأس خفيفة وسريعة، يفهمها كلهم دون ثرثرة اضافية.
وذلك الفتى الذي راح يستدرج صديقته إلى أقصى قاعة المغادرين، ليخطف قبلةً نديّة كالتماعة السماء في برقٍ خاطف، لم يكن يتقن أي لغة؛ حتى لغته الأم!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد