قد يهدي الإنسان قلبه، لمن يهوى، وعن طيب خاطر!
وقد ينذر عمره لقضية ما، أو يرخص روحه فداء لحلم، وربما يكون مؤمناً بفكرة يخلص شديد الإخلاص لها.
لكنه من الابتذال أن يؤجر الإنسان رأسه، للآخر يحشوه له، بما يراه وما يريده الآخر من أفكار وبدع وخصومات وآراء متناقضة مع بعضها.
لا يفعل ذلك سوى إنسان يمتهن عقله، أو يعجز عن إدارته واستخدامه، فيقدمه رخيصاً لصحافي كاتب عمود، أو إمام مسجد، أو شاعر، أو حتى لرجل جالس على مقهى!!
ذلك أن الأمر التبس على كثيرين، إذ ظنت العاشقة أن أعلى درجات الحب أن تهدي عقلها، فيما آمن المريد أن عقله لا يلزمه في حضرة شيخه، وتباهى التلميذ أنه يحفظ غيباً كل تعاليم أستاذه، وقال القارئ إنه لا يُكذّب ما تقول الصحيفة، وأغمض المصلي عقله وأرخى أذنيه لخطيب الجمعة!
ونسوا جميعاً أن العقل ماكنة للتفكير والخلق والاقتراح، وليس آلة تسجيل!
يتحرك كثيرون على موسيقى القطيع، وعلى إيقاع منتظم، لا يكلفون أنفسهم عناء التفكير بما يقول المذيع أو ضيفه، ولا يضعون أي فكرة موضعاً للنقاش، فالمسطرة التي يحاكمون بها الأمور دائماً جاهزة، وهي ما قال الشيخ، أو ما قال الصحافي فلان، أو ما قال أمين عام الحزب وهو يرفل بربطة عنقه الساذجة ويخطب في جمهور المصفقين!!
كلام الصحف لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، وكلام الرجل الذي كان يهمسه لجاره في الباص ينشره باقي الركاب في البلد دون أن يقلبه أحد بين يديه، أو يتفحصه، وما يقوله الموظفون في استراحة الغداء يصير "معلومات" يتناقلها الناس.. ويتورط صحافيون لاحقاً في تحليلها وإعادة إنتاجها، وقد يستضيف برنامج حواري "خبيرين استراتيجيين" للحديث في "تداعياتها"!!
من الطبيعي أن ينتظم الناس في حركات وأحزاب سياسية، وأن يلتزموا بلوائح داخلية وانظمة وسياسات عامة، لكن من المعيب أن يخلعوا رؤوسهم ويضعونها في خزانة الأحذية قبل بدء الاجتماع!!
فعضو اللجنة التنفيذية، أو أمين السر، أو رئيس المكتب السياسي، أو شيخ الجامع، كلها ليست صفات للعصمة، أو أسباب للحكمة، ولا تمنح صاحبها حصانة على قوله، أو أوراقه، أو خراريفه التي يقصّها على زوّاره في المضافة!!
والجمع من الناس، الذين يؤجّرون عقولهم، ويبصمون بأصابعهم العشرين على ما يسمعونه في نشرة الأخبار، أو تدفعهم النكايات لأن يخترعوا تفاصيل وحيثيات وإضافات للإشاعات التي يسمعونها، هم غير جديرين أبداً بأن يحملوا رؤوسهم بين أكتافهم، ما دام حملها أو تركها في البيت، لا يغير شيئاً.
يكفيهم إن خرجوا من بيوتهم أن يحملوا معهم آذانهم فقط!!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد