ذات صيف، قبل 22 عاماً بالضبط، وكان البريد بين الناس ورقياً، وما يزال يحتفظ بشغف التلهف والانتظار، عادت لي رسالة بعد إرسالها لصديق حميم، ورفيق دراسة في المغرب، وقد ختمت بخاتم أحمر غريب بكلمة واحدة: "توفي"!
كان الخبر، وطريقته الصادمة، كفيلين بأن ينقشا حزنا عميقا في داخلي لا يزال يصيبني بالاختناق والحشرجة..حتى اليوم.
.. تغيرت الدنيا، وتراجعت أهمية صناديق البريد، ولم تعد مفاتيحها المعدنية الصغيرة تظهر إلا نادرا في سلسلة المفاتيح، وهي التي كانت دلالة وجاهة وتباهٍ، حين لم يكن الجميع يملك ذلك الترف!
أما بعد.. فصارت للشخص الواحد إن شاء عدة صناديق بريدية، بلا مفاتيح، وبلا مشاوير تفقدية للبريد، فهي بمجرد "كليك" واحدة تنفتح أمامه ويقرأ بريده كاملا، ويتلف أيضاً رزمة من الرسائل غير المرغوب بها التي تكومت في صندوقه!
ولم يعد الناس يحتفظون بدفاتر صغيرة مهترئة في الجيب، فيها عشرات الأرقام الهاتفية، بعضها لم يعد مقروءا بسبب ذوبان الحبر، أو الورق.
صارت أجهزة الموبايل كفيلة بحفظ الأرقام والعناوين والأسماء وأعياد الميلاد وأسعار العملات وحالة الطقس وجدول الضرب!
لكنها وضعتني أمام موقف مؤلم آخر أجهزة الموبايل هذه، بعد أن توفيت صديقتي "أطوار بهجت"، وكنت مضطراً كلما فتحت الموبايل بحثا عن رقم أحد، أن أمر على اسمها، المحفوظ أكثر من مرة بأكثر من رقم، فأصفن في اسمها وأتساءل بيني: كيف تعيش أشياء الإنسان أكثر منه؟!
ولم يكن ممكناً أن تطاوعني أصابعي على شطب اسمها من موبايلي، وبقيت في ذلك الموقف حتى تصرفت الأقدار وضاع هاتفي، وضاعت الأرقام والأسماء!
لكن الأقدار ذاتها، عادت تناكفني، ذات صباح في مكتبي في الجريدة، حين فتحت ايميلي ووجدت رسالة من "رعد مطشر"!
ورعد شاعر عراقي، وكنا هو وموفق ملكاوي وأنا، تربطنا علاقة نادرة من المحبة، حتى أن دموعا غامرة كنا نذرفها ثلاثتنا عندما نغادر رعد عائدين إلى عمان بعد كل لقاء،.. وتحديدا في اللقاء الأخير قبل الاحتلال!
لم أر "رعد" بعد الحرب، ولم أستطع التواصل معه، حتى كان صباحاً دامياً حين قرأت نعيه على الفضائيات.. بعد تفجير سيارة تحمل أربعة صحافيين في كركوك!
حزنت، وارتجفت، وبكيت على "رعد" طويلاً، حتى ذلك الصباح الذي ذكرته، حين فتحت ايميلي، ووجدت رسالة من "رعد مطشر"، كانت بطاقة تهنئة بالعيد، وجدتني ارتجف، وامتقع وجهي، ولم تحملني ساقاي،.. كيف تجيؤني رسالة من ميت؟ بقيت لعدة أيام مرتبكاً، أرتجف أكثر الوقت، ولا أعرف ماذا أفعل؟!
ثم أقنعت نفسي لاحقا بأن أحدا ما، صديقا أو زميلا معه، حافظ على ايميله وأحب أن يقوم بالتواصل مع أصدقاء الراحل..نيابة عنه!
...  ...
في ليلةٍ ما، سيتراكم الغبارُ فوق كومةٍ من الرسائل الإليكترونية في "إيميلي"، وروحٌ قلقةٌ تأتي في الليل تُحلّق فوق جهاز الكمبيوتر، لكنها لم تعد تحفظ "الباسوورد" وباقي خزعبلات "الأحياء"!
الروح تجلس على طرف سريري.. وتمسح دمعةً خفيفةً وهي تتمتم: من سيقول لها الآن أنني لم أرد على رسائلها لأنني صعدتُ إلى نهايتي؟ ربما لم تعرف بالخبر بعد .. وستبقى تشتمني طيلة الليل!
لا بد من شيء ما يجعلها تعرف أنني لم أعد أملك القدرة على فتح الإيميل، وأنني أُصبتُ بالوضوح التام، ولم يعد بمقدوري الكذب!! 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد