لا أعرف إن كان من حسنات تطور وسائل الإعلام، أو من سيئاته، أنها صارت تنقل الحرب في بث مباشر، وأسهمت في أنسنة الأساطير المتوارية في مساحات ما من أذهاننا!
سأوضّح:
لم يعد الجلّاد فكرة غامضة، لم تعد الحرب صوراً مُنهِكة نحاول رسمها مستعينين بما تقول الصحف، لم يعد الدم مجرد لون فها أنت تحسُّه يسيل على ركبتك خلال نشرة الأخبار! لم يعد الشهداء حمامات بيضاء متخيّلة، فالشهداء الآن أطفال يموتون على مقاعد المدارس، وأمهات يطبخن، وسائقو سيارات أجرة يموتون خلال نقل الركاب، والفضائيات تنقل لك اللحظات الاخيرة في حياتهم، وآخر ما قالوه، وتوثّق ضحكاتهم على وجوههم كما هي؛ ولن تنتظر سماعها من الرواة في المستقبل!
الشهداء مثلنا؛ أشخاص عاديون كانوا على رأس عملهم؛ ثم لم يستأذنوا!
الكاميرا تُسجّل الساعة الأخيرة في حياة ربة البيت قبل أن تحمل لقب الشهيدة، وتُسجّل الافطار الأخير للعائلة، وتُصوّر الشهيد وهو يضحك او يمزح أو يشتري الخبز قبل ان يدخل الى "البوستر" الملوّن بضحكة مُجمّدة!
الشهداء منّا، وليسوا أشخاصاً غريبين مهمتهم الوحيدة صنع القداسة لقضيةٍ ما، للإعلاء من شأنها!
وها هم يقدمون البراهين على شاشات التلفزيون، ويقدمون الوثائق الرسمية التي تفضح أنهم أقارب لنا، جيراننا، التقينا في المصعد يوماً او على باب مطعم او فندق.
الشهداء ليسوا حكايات يؤلفها الصحفيون، وهذا الأب الذي يحمل جثة طفلة رضيعة على التلفزيون ليس ممثلاً، بل أب حقيقي وهذا الدمع حقيقي جداً!
والأطفال لن ينتظروا دروس التاريخ في السنوات اللاحقة ليقرأوا التاريخ، فها هم يكتبونه، ويرونه امامهم وسيجادلون فيه أساتذتهم بثقة وبحجج دامغة وأكف مبللة بالدم!
أما الأساطير التي كنا نسمعها في طفولتنا عن الشجعان والأبطال فتتراجع الآن من مخيلات الأطفال، والكبار، وحتى من مخيلات المخرجين والشعراء، لأن الواقع أشدّ سطوعاً، ولم تعد المخيلة تَلزم أحداً لصناعة فيلم او رواية، فأي ابداع يستطيع ان يجاري طفلة يقع رأسها بجانبها وتظل واقفة؟!
وأي قصيدة يكتبها رجل مترف عن عائلة صارت تخبىء الخبز بجانب جثث أطفالها في المطبخ؟!
لن تعود السينما مقنعة بعد الآن، وسيصير المجد للفيلم الوثائقي. ولن يعود الرواة ضروريين فالأمهات الثكلى سيقمن بالدور، ولن يكون التاريخ كله مهماً .. لأنه سيكون تاريخ من نجوا!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد