نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً» (البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم: [3319]).
عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ» (البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم: [3019]).
الفوائد من هذه القصة:
أولًا: الحذر من الغضب:
فالغضب "ثورانٌ في النفس يحملها على الرغبة في البطش والانتقام" (الوافي في شرح الأربعين النووية؛ لمصطفى البغا ومحيي الدين مستو، ص: [110]).
عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأَرْضِ» (أخرجه الترمذي في باب: ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، رقم: [2191] وقال: "حديث حسن").
"نلاحظ في هذا الحديث لونًا من ألوان العلاج لثورة الغضب، وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ألا وهو اللصوق بالأرض، والغرض منه تجميد كل حركة يمكن أن ينجم عنها آثار غضبية مادية" (الأخلاق الإسلامية؛ لحبنكة: [2/345]).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» (رواه أبوداود: [4784]).
"والغرض منه تبريد حرارة الغضب، والانشغال بأمر من أمور العبادة يصرف النفس عن توترها الغضبي، وانفعالها الناري" (الأخلاق الإسلامية؛ لحبنكة: [2/345]).
"ويوجد علاج نبوي ثالث لحالة الغضب، وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. روى البخاري ومسلم عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، وَأَحَدُهُمَا قد احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ» فَقَالُوا لَهُ إِن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ»" (الأخلاق الإسلامية؛ لحبنكة: [2/345]).
ثانيًا: لا بد من العدل فلا تزر وازرة وزر أخرى:
قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [الإسراء من الآية:15]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن): {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي: لا يحملنكم بغض {قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا} كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافرا أو مبتدعا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق.
{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى.
{إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجازيكم بأعمالكم، خيرها وشرها، صغيرها وكبيرها، جزاء عاجلًا وآجلًا" اهـ.
والنبي هنا قد حرق قرية النمل كلها وكان الواجب عليه أن يعاقب المخطئ فقط وهي النملة لا غيرها إذا كان لابد من العقاب.
ثالثًا: هناك أمم أمثالكم:
فقد قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38].
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن): "أي: جميع الحيوانات، الأرضية والهوائية، من البهائم والوحوش والطيور، كلها أمم أمثالكم خلقناها. كما خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا، كما كانت نافذة فيكم.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وقوله {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة، وقال السدي {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} أي خلق أمثالكم.
وقوله {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} أي: الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان بريًا أو بحريًا، كقوله {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود:6] أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها".
رابعًا: النمل أمة تسبح فأين خير أمة من التسبيح؟
قال الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن): {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ} من حيوان ناطق وغير ناطق ومن أشجار ونبات وجامد وحي وميت {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} بلسان الحال ولسان المقال. {وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم بل يحيط بها علام الغيوب".
قال الله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1].
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن): "أي: يسبح لله، وينقاد لأمره، ويتألهه، ويعبده، جميع ما في السماوات والأرض، لأنه الكامل الملك، الذي له ملك العالم العلوي والسفلي، فالجميع مماليكه، وتحت تدبيره، {الْقُدُّوسِ} المعظم، المنزه عن كل آفة ونقص، {الْعَزِيزِ} القاهر للأشياء كلها، {الْحَكِيمِ} في خلقه وأمره".
فهذه الأوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وممن يسبح الله تعالى أيضًا: الملائكة:
قال الله تعالى على لسان الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة من الآية:30].
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن): "أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك".
والطعام يسبح الله تعالى:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: «اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ». فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ المُبَارَكِ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ» فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهْوَ يُؤْكَلُ (البخاري؛ كتاب المناقب، رقم: [3579]).
خامسًا: قد تجر الويلات على الأمة بأفعال البعض:
كما فعلت النملة التي جرت عل قريتها الدمار بسبب تهورها وتصرفها الخاطئ.
سادسًا: التربية بالتأثيم تولد حفظ الدماء:
إن من يربي ولده على أن يتأثم من قتل نملة لا يمكن أن يتأتى منه سفك دم إنسان بريء بغير حق.
سابعًا: التحريق بالنار للأحياء غير جائز فلا يعذب بالنار إلا رب النار كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم:
عن مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ الأَسْلَمِىُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ قَالَ فَخَرَجْتُ فِيهَا وَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ». فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحْرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» (سنن أبي داود؛ كتاب الجهاد، رقم: [2673]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
مسير الظفيري