الدرس الأول : مقدمات منهجية
المقدمة الأولى: تعريف الشمائل
تعريف الشمائل: الشمائل في أصل اللغة - كما يذكر ابن فارس - تدور على محورين من المعاني الكلية الأساسية:
المحور الأول: هو دوران الشيء بالشيء وأخذه إياه من جوانبه.
وليس في هذا الكلام صعوبة عندما نقول: أمر شامل ، فالمقصود أنه متكامل في جوانبه كلها، ونحن نقول مثلا: هذا الموضوع يشمل كذا وكذا وكذا أي: أن الشميلة أو الشمل المقصود به اجتماع الأمر من جوانبه كلها فنقول أحيانا: شملهم الأمر إذا عمهم، وهذا أمر شامل أي: يعم الناس كلهم ومنه أيضا الشملة: وهي الكساء الذي يتزر به الإنسان ويغطي به عامة بدنه.
وهكذا نجد أن معنى الشمول في أصله من الفعل الثلاثي شمل المقصود به: الإحاطة من الجوانب المختلفة الذي يكمل بها الأمر في غالبه وهكذا نجد هذا المعنى واضحا في كثير من مفردات لغة العرب.
والمحور الثاني: في هذه الكلمة هو الشمال، والمقصود به: ما يقابل اليمين، ومنه الريح الشمال التي تأتي من جهة الشمال، وهو عبارة عن أمر مادي وليس معنوي، فعندما نقول هذا المعنى نقصد به إما الشمال في يد الشمال، أو الشمال وهي الريح الشمالية ونحو ذلك من المعاني المتعلقة بالأمور المادية المحسوسة.
لكن هذا المعنى اللغوي ليس هو الذي نقصده، ففي استخدامات اللغة يسبق إلى أذهاننا عندما نقول شمائل النبي -عليه الصلاة والسلام- أنها أخلاقه وخصاله، وخلاله ومحامده، وهذا أيضا جاء في لغة العرب -كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب- قال:
والشمال خليقة الرجل، وجمعها شمائل. فعندما نقول شميلة الرجل كذا أو شمائله كذا أي: خليقته وخلقه وخصاله كما قال لبيد شعرا:
هموا قومي وقد أنكرت منهم شمائل بدلوها من شمال
شمائل بدلوها أي: خصالا وخلالا وأخلاقا غيروها.
قال صاحب اللسان: وإنها لحسنة الشمائل، ورجل كريم الشمائل أي: في أخلاقه ومخالطته، وفلان مشمول الخلائق كريم الأخلاق.
فالشمائل بهذا المعنى: هي الخصال والأخلاق، وإذا أردنا أن نربطه بالمعنى الذي ذكرناه في أول الأمر، وهو شمول الشيء وإتيانه من جوانبه فإننا نقول: إن الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة هي الجوانب المتعددة التي إذا اكتملت عند الإنسان، أو كان كثير منها حسنا أصبحت كأنما هي رداؤه وكأنما هي الأمر الذي يزينه ويغطيه، ويظهر محاسنه، وهذا الذي يجمع بين الأمرين.
ومن هنا قال بعض المتأخرين من العلماء في الشمائل : الشمائل الخصال الحميدة والطبائع الحسنة جمع شميلة كالشمائم جمع شميمة والكرائم جمع كريمة.
وقيل: جمع شمال بالكسر هو الخُلق بالضم فيقال: فلان كريم الشمائل والخلق على هذا المعنى، ويكون أيضا في تقارب شديد بين الشمائل والأخلاق.
ولذلك نحتاج أيضا أن نتمم هذا المعنى بالكلام على تعريف الخُلق لأن شمائل النبي أخلاق النبي وخلال النبي كلها بمعنى واحد.
التعريف اللغوي للخُلق: الأخلاق جمع الخُلق، وهو من حيث الاشتقاق اللغوي من الفعل الثلاثي المكون من الخاء واللام والقاف يطلق على معان منها: الدين والطبع والسجية فيقال: خلق فلان كذا أي: سجيته أو طبعه أو دينه أي: الذي يدين به ويمارسه ويعمله، وهما في الأصل اللغوي يدوران على تقدير الشيء أو ملاسته فالأول يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته، أي: أنني أصنع الشيء بما يتناسب مع حاجته، أو من الخُلق وهو السجية التي تكون فيها الملاسة بمعنى الحسن والسماحة في هذه الأخلاق.
أما الأخلاق في المعنى الاصطلاحي: ففي تعريفها كلام كثير عند العلماء ، وأول من عرف الأخلاق، واشتهر تعريفه ودار كثير ممن بعده حول تعريفه ابن مسكويه في كتابه المشهور عن الأخلاق. وقد نحا في التأليف منحى فيه المعاني التي يذكرها الفلاسفة عن طبائع النفوس.
والخلاصة التي يمكن أن نقولها في تعريف الخلق تعريفا موجزا جامعا أنه: قوة في النفس راسخة تنزع بها في يسر وسهولة، ومن غير تكلف إلى اختيار ما هو خير وصلاح أو شر وجور، وذلك بمعيار الشرع الإلهي والفطرة السليمة.
بمعنى: أن الأخلاق في تعريفها: هي أمور في النفس تنزع إليها بباعث ديني ونازع فطري، فتختار إما الخلق الحسن في الخير والإحسان أو تميل فتختار وتتطبع بالخلق المرذول في الشر والجور وعدم العدل.
فإذا تكلمنا في هذا المعنى فنحن نقول: إن موضوع الشمائل النبوية هو: السمات والخصال والأخلاق التي عرف بها رسولنا - صلى الله عليه وسلم-.
المقدمة الثانية: ما هو علم الشمائل الذي نتحدث عنه؟
هو علم يختص بذات - رسول الله صلى الله عليه وسلم - وشمائله وأخلاقه وبعض ما يتصل به.
علم يختص بذات النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وبعض ما اتصل به.
لماذا قلنا علم يختص بذات النبي؟
لأنهم يدخلون في علم الشمائل وصف خَلقه -عليه الصلاة والسلام - لا يقتصرون على خُلقه بل يذكرون في الشمائل خَلقه وخلقته فيصفون طوله وشعره ومشيته، وكل ما يتصل بذاته الشريفة -عليه الصلاة والسلام-.
ثم جل موضوع الشمائل يتصل بأخلاقه في أنواع كثيرة تنقسم إليها الأخلاق مما سيأتي معنا.
قد تكون أخلاقا اعتقادية إيمانية كالرضا والتوكل والخوف والخشية وهي معان إيمانية قلبية، وقد تكون أخلاقا اعتقادية سلوكية أيضا في الأخلاق التي تتعلق بالإيمان، وتنعكس في السلوك العملي.
وقد تكون هناك أخلاق اجتماعية في معاملته مع الآخرين، أو أخلاق أسرية في معاملته مع أسرته.
وقد تكون أخلاقا في المعاملات من نحو البيع والشراء، ونحو ذلك في أقسام كثيرة.
المقصود بذلك: أن كل ما يتصل بخُلقه من طبع نفسه، ومن طريقة معاملته في كل جوانب الحياة هو جوهر ولب وأساس علم الشمائل والأخلاق النبوية.
قلنا: وما يتصل به؛ لأنهم عادة ما يذكرون في ظل الشمائل كل ما يتصل به من الأشياء التي يتعامل معها، فيذكرون دوابه وسيفه ودرعه ونعله وقصعته، وكل ما يتعامل به من الأشياء. كيف كان فراشه؟ وكيف كانت وسادته؟ وكيف كان بيته؟ لأن هذه من تمام وصف حال المرء، فإذا قلنا شمائله لا يقتصر ذلك على الأخلاق، بل - كما قلنا- الخُلق، والخَلق وما يتصل به أيضا مما اختص به، أو أخذه، أو اختص به في تعامله، وأخذه به كما هو معروف في كتب الشمائل.
بل أضاف بعضهم إلى هذه الشمائل ما يختص بطريقته وهديه في عبادته كيف كان في أثناء صومه؟ كيف كان في حجه وعمرته؟ كيف كان في صلاته؟
هذه صفات متعلقة بالعبادات، لكن بعض أهل العلم يدخلون ذلك في الشمائل باعتبار أن هذه صفة خاصة له في طريقة أدائه في العبادة فإذا قلنا في الصلاة خشية، أو قلنا في التلاوة عبرة، أو ذكرنا في الصوم عفة، أو رأينا في الحج نوعا من الخصال التي ربما ترتبط بهذه العبادة، فيدمج ذلك كله في سياق الشمائل النبوية كما صنع ذلك بعض من صنف في هذا العلم .
ويجب هنا أن نؤكد على مدى العناية والجهود العظيمة التي بذلتها الأمة عموما، وعلماء السنة خصوصا في حفظ كل ما يتعلق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كأنه - وإن غاب عنا ولم ننل شرف صحبته- بين أظهرنا نعرف حاله في كل أوضاعه وشؤونه.
نعرف طعامه وما يحبه من أنواع الطعام، وما كان عامة طعامه وكيف كان هديه في طريقة أكله في الطعام؟ وكيف يبدأ الطعام؟ وكيف ينتهي من الطعام؟ في كل جانب.
وإذا انتقلنا وجدنا ذلك في كل شيء وجدنا ذلك في شرابه، وجدنا ذلك في منامه، وجدنا ذلك في سفره، وجدنا ذلك في حضره، وجدنا ذلك في سائر أحواله، كما قال من قال: "كأنما ولد على ضوء الشمس"، لا يخفى عنا من حاله -عليه الصلاة والسلام- ولا من خلاله وخصاله في سائر أحواله شيء أبدا.
نعمة عظيمة تستوجب شكرا وعملا كبيراً؛ لأن هذا الذي أكرمنا الله به من وضوح سيرته قد قامت به الحجة علينا، وانقطع العذر منا في فهمنا لكتاب الله.
لأن سنته وسيرته وشمائله هي النموذج العملي الحي المتحرك في ذلك.
وفي اقتدائنا واقتفائنا واتباعنا واستمساكنا بهدي وسنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام خير كثير؛ لأنها قد وضحت لنا في كل الجوانب فلا عذر عند التفريط، بل يكون كثير منا في هذا من المقصرين نسأل الله -عز وجل- أن يعيننا على أن نأخذ بالأعلى والأكمل والأمثل في تعلقنا واقتفائنا لأثر رسولنا- صلى الله عليه وسلم- وتخلقنا بأخلاقه، واتباعنا لهديه واستمساكنا بسنته -عليه الصلاة والسلام-.
المقدمة الثالثة: في شأن الكتب فيما ألف في أخلاق وشمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسأقتصر على الأكثر أهمية، والأشهر شيوعا وذيوعا من هذه الكتب الجليلة المفيدة في أخلاق النبي -عليه الصلاة والسلام- وإن كانت الأخلاق كالشمائل لكن بعض العلماء سمى الكتب بالأخلاق، وبعضهم سماها بالشمائل من الكتب المتقدمة وإن كان غير موجود بين أيدينا:
كتاب " أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم " لابن حبان، وهو مختصر، وغير متوفر بمعنى أنه ليس مطبوعا.
من أشهر الكتب المطبوعة: كتاب " أخلاق النبي وآدابه " لمحمد ابن حبان البستي، وله طبعة قديمة.
وأشهر منه وأوسع منه وهو كتاب حافل كبير طبع الآن بعناية وافرة وتحقيق حافل في أربعة مجلدات "أخلاق النبي وآدابه" لأبي الشيخ الأصبهاني، وهو كتاب كبير حافل، سنذكر شيئا مما جاء فيه من الأصول والأبواب لنحدد موضوعات هذا العلم.
أما الشمائل فمعروف أن أشهر هذه الكتب في شمائل النبي -عليه الصلاة والسلام- وهي من الكتب المتقدمة:
كتاب "الشمائل النبوية" وفي بعض الأحيان طبع باسم "الشمائل المصطفوية" للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن -رحمه الله-، وهو أشهر هذه الكتب ومن أقدمها، وقد عكف كثير من العلماء على هذا الكتاب وشرحوه وتوسعوا فيه، وبعضهم اختصره ونحو ذلك مما هو مشهور في الكتب التي يكون لها سبق وفيها تميز، ولأصحابها إمامة في العلم يكثر احتفال الناس بها وعنايتهم بها، وهذا الكتاب هو من هذا النوع الذي ألف عليه كثير من العلماء شروحا كثيرة من أشهرها:
كتاب "أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل" لأحمد بن محمد بن حجر الهيثمي المتوفى في القرن الثامن.
ومن المتأخرين نسبيا أيضا الإمام أو العالم علي بن سلطان القاري الذي ألف كتابه "جمع الوسائل في شرح الشمائل" وغيرهم أيضا كثيرون.
ومن الكتب في الشمائل كتاب "الأنوار في شمائل النبي المختار" للإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي -رحمه الله- وفاته سنة ست عشرة وخمس مئة للهجرة من أعيان القرن السادس. وهو كتاب حافل مهم لا يقل في جودته وإتقانه عن كتاب الترمذي، ويتميز بأنه أوسع وأشمل، وفيه من الأحاديث عدد أكبر .
وللسيوطي - ووفاته سنة إحدى عشرة وتسع مئة للهجرة - كتاب في شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو كتاب متوسط مطبوع.
وكما قلت بعض الكتب التي عنيت بخصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم- اشتملت كذلك على مادة غزيرة مما يتصل بالشمائل؛ لأن الخصائص يذكرون فيها خصائص بدنه الشريف وخصائص ذاته الشريفة ككونه يقول -عليه الصلاة والسلام-:
(تنام عيني ولا ينام قلبي وإني أراكم من وراء ظهري) ونحو ذلك.
فهذه جزء من الشمائل أيضا يدخل في الخصائص.
من الأمور التي تدخل أيضا في الشمائل، وإن كان بعض المتأخرين أفردها إفراداً خاصاً: الأمور المتعلقة ببيان عظمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، واختصاص الله -عز وجل- له ببعض الخصائص التي تُظهر بعض المعجزات، وبعض الأمور التي تبين خصوصيته عن غيره من الرسل والأنبياء، واختصاصه أيضا عن بقية البشر من أمته وغيرهم.
وهذه أيضا موضع اهتمام واحتفال عظيم يعنى بها بعض المصنفين فيبرزون هذه المعاني مما يعتبرونه متصلا بشمائله -عليه الصلاة والسلام-.
ونذكر أيضا بعض الكتب الحديثة التي ركزت على هذا الجانب ومنها:
كتاب "عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم" لمحمد عطية الإبراشي وهو كتاب جيد جميل لطيف فيه جوانب لا يركز فيها إلا على عظمة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيقول: عظمته في صفاته الواردة في الكتب السابقة، ويأتي بما ورد من بعض صفته مما لم يحرف في التوراة والإنجيل ثم يقول: عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر بشأنه في القرآن الكريم، ثم يأتي فيقول: عظمة النبي -عليه الصلاة والسلام- عند المنصفين من غير المسلمين من المعاصرين وغير المعاصرين. ويأتي بعد ذلك بوجوه عظمته -عليه الصلاة والسلام - في بعض أخلاقه وخلاله إلى غير ذلك، وهو نوع من التصنيف في الشمائل مع بيانه لهذه الوجوه من العظمة.
ومنها أيضا كتاب "رسول الله عليه الصلاة والسلام عظيم قدره ورفيع مكانته عند الله عز وجل" وفيه ذكر مائة خصيصة قرآنية وحديثية تجلي عظمته -عليه الصلاة والسلام- وتبين مكانه ومقامه الشريف -عليه الصلاة والسلام-.
فهذه جملة من هذه المعاني المتصلة بعلم الشمائل وبعض كتبه.
نستطيع أن نقول: إن علم الشمائل الذي قد نمر ببعض موضوعاته يمكن أن يتعلق بذات النبي -عليه الصلاة والسلام- وصفة خَلقه، ويمكن أن يتعلق بأخلاقه وخلاله وخصاله وسائر جوانب التعامل الكاشفة عن عظمته -عليه الصلاة والسلام- ، كما يتناول بعض ما يتصل به من دوابه وسيفه ودرعه ونحو ذلك.
وقد يلحق بذلك بعض هديه في أداء عباداته من الفرائض التي افترضها الله -سبحانه وتعالى- على المسلمين.
ولعلي أقف وقفة أخيرة فأقول: لماذا الشمائل؟ ما فائدة أو ما أهمية دراسة الشمائل؟
نحن قد أكرمنا الله -عز وجل- بدراسة السيرة النبوية، ورأينا فيها الكثير والكثير من الفوائد والدروس والعظات والعبر المؤثرة في النفوس والقلوب، والتي يرجى أن يكون لها أثر في السلوك والأعمال، لكن مزية الشمائل عن السيرة في جوانب مختلفة :
المزية الأولى: اختصاص الشمائل بجمع المفردات المتنوعة والمواقف المختلفة في الموضوع الواحد.
نحن نرى في السيرة شجاعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكننا نرى جزءاً منها في يوم بدر، وبعضا منها في يوم أحد، وذكر لها في الخندق، وهكذا...، لكن في الشمائل شجاعته صلى الله عليه وسلم تجد كل ما يتصل بهذا الخُلق أو هذه السمة في موطن واحد فهذا:
أولا:ًيزيدها وضوحاً، ويظهرها ويبرزها عظمة.
وثانياً: يسهل على الذي يريد أن يقف على هذا الخلق، ويعرف جوانبه ليتأسى به ،أو ليعرف عظمته فيقدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدره من هذه العظمة.
المزية الثانية: أن جوانب الشمائل أكثر التصاقاً بالسلوك والعمل منها بعموم السيرة النبوية.
لأننا هنا سنتكلم كيف كانت شمائله في طعامه؟ في شرابه؟ في منامه؟ في قوله؟ في وعده؟ في معاملته لزوجه؟ في تعامله مع الصغار؟ مع الكبار؟
إذا هو جزء حياتي مباشر لواقعنا الذي نحتاج إليه، والسيرة فيها هذا لكنه متفرق، وأيضاً غير مختص.
فليس في السيرة تفاصيل في أحداث أو وقائع سيرته -عليه الصلاة والسلام - مع أزواجه في حياته اليومية، لكننا نجد في الشمائل هذا التركيز نجد كيف كان يصنع مع أزواجه، كيف كان يصنع في بيته بتفصيل دقيق للأمور الحياتية اليومية التي نحن في أمسّ الحاجة إليها.
المزية الثالثة: أنها أكثر تركيزاً ودوراناً وارتباطاً بذات وشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلا تكاد تجد في الشمائل ذكراً لغير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إلا القليل.
بينما في السيرة هناك ذكر لآخرين؛ لأن السيرة أحداث وتفاعلات نأتي إلى بدر فنستمع إلى الأقوال قبل الغزوة، ثم نجد وقفة مع الصحابة الذين كانوا يبارزون، ثم نرى قصة عمير بن الحمام -رضي الله عنه- نرى قصصاً كثيرة لأشخاص من الصحابة، بل نرى كذلك مواقف لغير المسلمين.
في السيرة نرى كيف كان أبو جهل، وماذا قال أبو سفيان، وتتشعب الأمور، لكن الشمائل محورها هو شخص رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقل أن نجد فيها شيئا يتعلق بغيره، فليس فيها هذه الاستطرادات التي هي من طبيعة السيرة.
طبعاً ينبغي أن ننتبه إلى أننا هنا لا نفضل الشمائل على السيرة أو السيرة على الشمائل، ولكننا نذكر بما اختصت به السيرة أو ما هو طريقتها كعلم ومنهج، وماذا اختصت به الشمائل كعلم ومنهج.
المزية الرابعة: أن الشمائل النبوية لها تعلق بأمور من المعجزات والخصائص التي فيها نوع من إبراز عظمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر منها في السيرة المبثوثة هنا وهناك.
على سبيل المثال: نجد ذكر خاتم النبوة في السيرة يأتي عرضاً، لكنا نجده في الشمائل يأتي قصداً نجد أن صفة خلقة النبي -عليه الصلاة والسلام- تأتي في أثناء السيرة عرضاً، لكنها هنا تأتي تفصيلا وقصداً، وكل هذا يركز على جوانب إبراز تميز وتفرد واختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أكرمه الله -سبحانه وتعالى- به وحباه له، وجعله تنويهاً وتشريفاً لقدره ومكانته -عليه الصلاة والسلام-.
ثم نواصل في نفس السؤال لماذا الشمائل بالنسبة لنا؟
أولاً: لأن الجانب الأخلاقي في حياة الأمة المسلمة اليوم هو من أكثر الجوانب ضعفاً وخللاً.
ولذلك نعرف هذا ونلمسه، نحن مسلمون، وأمة مسلمة، ومجتمعات مسلمة، لكننا نرى كذباً في القول، وإخلافاً في الوعد، وظلماً في المعاملة وأشياء كثيرة جداً كان لها كثير من الأثر السيئ والسلبي في حياة الأمة الإسلامية.
ومن أهم بواعث النهضة والإصلاح: إقامة الأخلاق، وتقويم السلوك وبعث الفضائل، وإحياء الخصال الحميدة، وبيان صلتها بالإيمان وبالعبادة.
نحن قد نجد من يعتقد اعتقادا صحيحاً ومن يؤدي الفرائض، لكن ذلك لا ينعكس في خلقه وسلوكه وخصاله، فنجده يصلي، ولكنه -كما قلنا- يكذب ونجده يصلي، ولكنه يغش. إذاً نحن في حاجة ماسة إلى علاج هذا الجانب المهم من الجوانب الأساسية في حياة الأمة الإسلامية.
ثانياً: لأن الأخلاق الإسلامية ذات أثر عظيم في الدعوة إلى الله -عز وجل-.
الخلق، السلوك، القدوة الحسنة، الأسوة الفاضلة، ذات أثر كبير جداً في التعليم والإرشاد، وفي الدعوة والترغيب، عندما نتحدث ويتحدث الخطباء والوعاظ، ويتلون الآيات، ويذكرون الأحاديث، ويذكرون تخريجها وصحتها، ومن قال كذا وكذا هذا كلام كبير وكثير. ولكن ربما يكون التعليم بالفعل والامتثال أبلغ في فهم المسألة ومعرفتها، وفي التأثر بها، والرغبة فيها من كثير من القول.
وهذا واضح ومعلوم أن القدوة العملية المتحركة أثرها في الإقناع وفي الترغيب أبلغ من القول.
ولذلك سنرى أن من أعظم ما سبى قلوب الناس، وخطف أبصارهم وعلق أرواحهم، وأعمل عقولهم في شخص النبي -عليه الصلاة والسلام -هو أخلاقه- حتى أعداؤه من الكفار الذين أسلموا كان سبب إسلامهم ما بهرهم من خلقه الفاضل، ومن معاملته الحسنة، ورحابة صدره، وسماحة نفسه.
وهذه المعاني العظيمة التي يتعامل بها الناس فيما بينهم فإذا رأوا عظمة خلق جذبهم ذلك وأسرهم، وهذا الذي أنطق بالشهادة- لفضل رسول الله عليه الصلاة والسلام- حتى غير المسلمين لما رأوا من تلك الأخلاق الفاضلة العظيمة، حتى قال صناديد قريش ما قالوه في وصف رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ، وقبل بعثته كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
وخديجة - رضي الله عنها- أم المؤمنين لما نزل الوحي، وجاء النبي -عليه الصلاة والسلام - وهو يرتعد خائفاً قالت: (إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فوالله لا يخزيك الله أبداً).
استنبطت من أخلاقه الحميدة وخصاله الفاضلة أن من يكون على مثل هذا الخلق لن يكون إلا على خير وفضل، ولن يجري له إلا ما يتفق مع خلقه الفاضل وشمائله الكريمة.
وهنا نلحظ أن جانب الشمائل جانب مثير للعواطف والقلوب لكي تسمو نحو الكمال، وتشحذ هممها نحو الاقتداء والاقتفاء لأثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولعلي أختم بهذه الكلمات المنتقاة لبعض غير المسلمين من المعاصرين، لنرى من هذه الكلمات أن الذي بهرهم، والذي لفت نظرهم عظمة خُلقه -عليه الصلاة والسلام-.
تومس كارليل يقول في وصف رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: (لقد كان محمد مصلحا عظيما، ولم يكن دجالاً أو مريضا بالأعصاب أو الصرع، ولكنه كان رجلاً كريم الخلق قوي الإرادة والعزيمة، لم يفكر في منفعته الشخصية، ولكنه كان يفكر في غيره من الفقراء.
لم يكن مستبداً في أحكامه، بل كان مثالاً للعدالة في الحكم ينير الطريق لغيره ويرشد الضال وينشد المحبة بين الناس، ولم يكن محبا لنفسه، بل كان محبا لغيره، أمينا في أداء رسالته.
كان محمد -صلى الله عليه وسلم- مثلاً للإخلاص، والوقوف بجانب الحق والعدالة في كل ما يفعل وكل ما يقول وكل ما يفكر فيه، كان دائم التفكير محبا للصمت، لا يتكلم إلا إذا كان هناك ما يدعو إلى الكلام، وإذا تكلم كان حكيما في أقواله، سديدا في آرائه، مخلصاً الإخلاص كله، يلقي النور على كل ما يعرض عليه من الأمور).
هذه صفات أخلاقية لم يتكلم هنا عن عقيدة التوحيد التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، لم يتكلم هنا عن الصلاة، تلك أمور ربما يفقهها أهل الإسلام والإيمان، لكن الذي يفقهه كل الناس هذه المعاملة، وتلك الأخلاق التي تتجسد في صورة حية.
و ليونرد يقول: (ليس على الأرض إنسان عرف ربه معرفة حقة كما عرفه محمد -صلى الله عليه وسلم-. لقد وهب بني الجزيرة العربية حياته كلها لعبادة الله بإيمان قوي، وغرض نبيل، وهذا أمر لا ريب فيه. إن محمداً أعظم البشرية قاطبة، وأصدق إنسان وجد على ظهر الأرض منذ بدء الخليقة).
و يقول درنادسو الإيرلندي وهو أديب وصاحب مسرحيات يقول: (كنت على الدوام أنزل ديانة محمد - صلى الله عليه وسلم- منزلة كبيرة من الإعزاز والإكبار لعظمته التي لا تنكر.
إنني أعتقد أن دين محمد هو الدين الوحيد الذي يناسب كل إنسان ويصلح لكل زمان، ويتمشى مع كل بيئة في هذا العالم، في كل مرحلة من الحياة، وإني أتنبأ بأن دين محمد سيلقى القبول في أوربا غدا كما يلقاه فيها الآن).
وأفاض في هذا القول وشاهد الصدق يدل عليه واقع اليوم كما نعلم ذلك وهذه معان كثيرة يذكرها بعضهم.
ويقول أيضاً الكاتب الفرنسي المؤرخ لامرتين: (كان محمد حكيماً بليغاً فيلسوفاً خطيباً، ورسولاً مشرعاً، ومحارباً شجاعاً، ومفكراً عظيماً مصيباً في أفكاره وتشريعاته)
والشاعر والمفكر والفيلسوف الألماني بوته الذي قرأ ترجمتين كاملتين للقرآن بلغتين مختلفتين، وكانت له كتابات كثيرة في بيان عظمة ما انبهر به من معاني القرآن وشخص الرسول -عليه الصلاة والسلام- وقال مما قال في شعره:
من حماقة الإنسان في دنياه أن يتعصب كل منا لما يراه
وإذا الإسلام كان معناه التسليم لله فإننا جميعا نحيا ونموت مسلمين
وإذا جئنا بعد ذلك بمشيئة الله تعالى في أثناء دروسنا سنرى ما قاله الصحابة في وصف خَلق وخُلق رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وسنرى تصويراً عظيماً لهذه الشمائل الكريمة في شخصه -عليه الصلاة والسلام-.
أختم بهذه الأبيات الشهيرة لأمير الشعراء أحمد شوقي، وهي من همزيته الرائعة:
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثنـاء
يا خير من جاء الوجود تحية من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مسكاً بك الغبراء
وبدا محيـاك الذي قسماته حق وغرته هدىً وحياء
وعليه من نور النبوة رونق ومن الخليل وهديه سيماء
أثنى المسيح عليه خلف سمائه وتهللت واهتزت العذراء
يوم يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضاء
ذعرت عروش الظالمين فزلزلت وعلت على تيجانهم أصداء
نعم اليتيم بدت مخايل فضله واليتم رزق بعضه وذكاء
بسوى الأمانة في الصبا والصدق لم يعرفه أهل الصدق والأمناء
المراجع
qalamedu.org
التصانيف
ثقافات اللغة العربية الفلسفة الآداب اللغة العربية العلوم الاجتماعية