انظر للحياة نظرة المحب المتفائل، فالحياة هدية من الله للإنسان، فاقبل هدية الواحد الأحد، وخُذْها بفرحٍ وسرور.
اقبل الصباح بإشراقه وبسمته الرائعة.
اقبل الليل بوقاره وصمته.
اقبل النهار بسنائه وضيائه.
عُبَّ الماء النمير حامدًا شاكرًا.
استنشق الهواء فرحًا مسرورًا.
شُمّ الزهْرَ مسبِّحًا.
تفكَّر في الكون معتبرًا.
استثمر العطاء المبارك في الأرض، في باقة الزهر، في طلعة الورد، في هَبَّة النسيم، في نفحة الروض، في حرارة الشمس، في ضياء القمر.
حوّل هذه العطاءات والنعم إلى رصيدٍ من العون على طاعة الله، والشكر له على نعمه، والحمد له على تفضُّله وامتنانه.
إياك أن يحاصرك كابوسُ الهموم وجحافلُ الغموم عن رؤية هذا النعيم، فتكون جاحدًا جامدًا.
بل اعلم أن الخالق الرازق جلَّ في علاه ما خلق هذه النعم إلا ليُستعان بها على طاعته، وهو القائل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51].
اهجر مذهب الرهبان في نبذ مباهج الحياة وهجر الطيّبات وتعذيب النفس والعكوف في الكهوف والهروب من الحدائق الغَنَّاء والروابي الخضراء والسفوح الهائمة بالحسن والتّل المعشب.
فقد ذمَّ الله المعذِّبين لأنفسهم المتذمرين من الحياة، فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّـهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
الله خلق لك الطيّب الجميل والنافع المفيد:
فلعينيك خلق باقات الورود وطاقات الياسمين وأكمام السنابل ولفائف الريحان.
ولقلبك أنزل الوحي، وجعل الهداية، وأقام لك الحجة، وبيّن لك المحجة.
ولعقلك أوجد العلم، ونشر المعرفة، وأقام الدليل.
ولأذنك خلق الصوت الحسن المباح من هديل الحمام ونشيد العندليب وترتيل القمري، وفوق ذاك التلاوة الخاشعة الجميلة المؤثرة.
وخلق لطعامك الثمار اليانعة والقطوف الدانية والفواكه اللذيذة واللحوم المشتهاة.
وخلق لشرابك الماء البارد النمير العذب الزلال، وكل شراب لذيذ مباح بطعوم مختلفة ومذاقات متعددة.
وخلق لجسدك اللباس الناعم والرداء الجميل والكساء الحسن الباهي.
فكُلْ واشرب والبس دون إسراف ولا كبر، بل باعتدال وتوسُّط، واشكر المنعم -جل في علاه-، فهو المتفضل أولًا وآخرًا.
اقبل هدية الباري يوم حباك الكون الباهي الزاهي، فلا تردّ الهدية بنفس متشائمة منقبضة محبطة، لا ترى من الورد إلا الشوك، ولا من الشمس إلا حرارتها، ولا من الليل إلا ظلمته، ولا من الجبل إلا صعوبته، ولا من الطريق إلا طوله.
أما زلت إلى الآن لم تهش بنفس أريحيّة لجمال الوجود الموحي في سطوع الشمس وبزوغ القمر وتلألؤ النجوم وجلال الصباح وهيبة الليل وفتنة الروض وأصوات السواني وتصفيق الأنهار وتراقُص البَرَد وزخَّات المطر وقصائد الطيور واتساع الأفق وروعة السماء، فأمامك حدائق ذات بهجة، وحقول قمح خضراء، وبساتين فيحاء، وبحيرات زرقاء، وصحراء فيها رواية الإنسان الأول وقصة البدوي الصادق.
فيا أيها الإنسان؛ اقبل الهدية بنفس رضيّة وروح سويّة، فأنت في مهرجان الكون العجيب، وقد رُسم بأحرف الوحدانية وأسطر الصمدانيّة؛ لتقرأ فيه عجائب القدرة وبديع الصنع وروعة الخلق وحسن التصوير.
تأمل في خلال الأرض، وانظر إلى آثار ما صنع المليكُ؛ عيون من لجين شاخصاتٌ بأحداق هي الذهب السبيكُ على قضب الزبرجد، شاهداتٌ بأن الله ليس له شريكُ.
مسكينٌ المحبط المتشائم، إنه إنسان غير سوي، ناقم على نفسه والناس والحياة، يعيش في الكون وكأنه في زنزانة، ويقضي العمر وكأنه في جحيم، يتوقع الفقر وهو غني، وينتظر المرض وهو معافى، ويرتقب الخوف وهو آمن.
ولكن المؤمن في حياة مستقرة مهما قست الظروف؛ لأنه ينظر إلى الجوانب المشرقة في الحياة، وإلى الطرف الجميل من الوجود؛ فهو ينتظر اليسر بعد العسر، والفرج بعد الكرب، عنده من الإيمان والمعرفة وحسن الظن بالله ما يمسح كل دمعة، ويقيل كل عثرة، ويحل كل أزمة، ويكشف كل كرب، وهو يعلم أنه بإيمانه الأتقى والأبقى والأعلى والأغلى، كما قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].