ما من مرة عبَّر دولوز، سواء في كتبه أو في حواراته، عن نوع من الاشمئزاز والتقزز من النقاشات الفلسفية. ولم يكن موقفه هذا، يسلم من كل أشكال ردود الفعل الإتهامية، بدءا من مجرد إزعاج حتى النبذ الأخلاقي:وعلى ما يبدو، فمن غير اللائق أن يُعلِن المرء بكل وضوح، عما يَزْدَرِيه، في ظل ثقافة الرأي و الصراع الديمقراطي. "إن الفلسفة، تشمئز من النقاشات، إنَّ لها أمورا أخرى تَشْغلها"(Qu’est-ce que la philosophie ?p.33).ما الذي كان دولوز، يقصده بقول كهذا؟ ما الذي كان يعنيه، بالضبط بـ"النقاش"؟أكيد أنه يعني ، كل ما يمكن لأيٍّ كان أن يَفْهَمَهُ من خلال هذه الكلمة. فَأَنْ نُنَاقِش، ليس يعني فحسب، أن نتحاور، بل يعني كذلك، طريقة خاصة في اللعب بالألفاظ، ونشاطا حواريا، ينطلق من الأفكار والآراء (تلك الأفكار و الآراء التي نتفق بالضبط على مناقشتها) إما بغاية إثباتها و تبريرها و إما بغاية دحضها- وعلى العموم، فبغاية تِبْيَانِ مصداقيتها (قياسا بالمعايير العقلية) أو إبراز قيمتها الحقيقية (قياسا بمعايير الحقيقة). والحال أن هذا الإجراء، غالبا ما يَتِمُّ وفق عملية تقسيمِ الأدوار: ففي خضم كل نقاش، نجد من جهة أولى من يتقدم بأطروحةٍ و يُدافع عنها، ونجد من جهة ثانية من يروم بهذا القدر من الحنكة أو ذاك، نَقدَها. كل ذلك ، تنطوي عليه تنظيرات أرسطو في طوبيقاه "Topiques "، التي هي في الآن ذاته ما بها يتميز، وإليها يُحيل، نص هام من كتاب "الاختلاف والتكرار"بعنوان "صورة الفكر".
 
ولئن كان دولوز لا يدّعي أنه بصدد بَلْوَرَةِ مفهومٍ أصيل حول المناقشة، فالقضية التي يطرحها، بخصوص المناقشة، هي خلافا لذلك، أكثر تميزا. إذ لا يتعلق الأمر بمجرد تأمُّلِ رجلٍ أخلاقيٍّ، علينا إدراجُهُ ضمن فصل الخصائص الفلسفية(النقاش نشاط نرجسي يلعب فيه كل واحد دور المزهو بنفسه:وفي رمشة عين ننسى الموضوع الذي نتكلم عنه)؛ كما لا يستدعي الأمر، أبدا أن نتأسى مرة أخرى، على نحو ما فعل هيوم وكانط، وأن نرثي مشهد الفوضى و الهيجان الناتج عن المناظرات العقيمة مابين الفلاسفة، ولا أن نفضح ما يطغى عليها من بلاغة و نزوع إقناعي .أما في الحالة الماثلة أمامنا، فكل من يرفض أن يناقش، يُتَّهم بالخلط ما بين الفلسفة والبلاغة. وإذا وجب على الفلاسفة، على حد توضيح نتشه، في إحدى شذراته العائدة لعام 1884-1885 "ألا يكتفوا بقبول المفاهيم التي تُمْنَحُهم، من أجل تنقيحها وصقلها فحسب، بل عليهم أيضا أن يشرعوا في صناعتها وإبداعها وطرحها و إقناع الناس باللجوء إليها"، فالمنافحون عن النقاش الفلسفي، من حيث هو فعل ديمقراطي، ليسوا في حاجة إلى الكثير من المفاهيم، كيما يؤججوا بلا حشمة، فزَّاعة "خطاب العنف"(لماذا لسنا نتشاويين…). ومع ذلك فإن فكرة إبداع المفاهيم هاته ، و التي نكاد نختزل فيها ، أحيانا، تعريف دولوز للاشتغال الفلسفي، ليست على ما يبدو، بالوجهة التي يلزمنا اتخاذها.
 
إننا لن نربح الكثير، بإقامة التعارض، مثلما فعل رورتي و آخرون من بعده، مابين عملية الاستدلال والتحليل من جهة، والإلهام العبقري الخاص بالشاعر-الفيلسوف، المبدع لألفاظ جديدة من جهة ثانية. ذلك أنه ما من نقاش ممكن :"فالمفاهيم ، هي بالضبط، كالأصوات و الألوان أو الصور""إنها تكثيفات، قد تناسبكم أو لا تناسبكم، توافقون عليها أو ترفضونها"Dialogues p.10)) .وتبعا لتعبير برغسون، فالفلسفة هي "ما ينبغي الأخذ به أو تركه".كل واحد ، حر في تناول دولوز، كما في الاستعانة بـ"أوديب مضادا" تماما مثلما كان فاليري يقرأ نتشه باحثا لديه، عما يؤجج قواه؛ فالمسألة هي مسألة أذواق واختيارات شخصية.والحق أن دولوز، أحيانا ما كان يشجع مثل تلك القراءة:وعلى نحو ذلك، وجب التخلص من النقاش "و وَصْلُ الفكر بشيء ما خارج عنه"والسماح لإبداع فيلسوف معين "بقدر وافر من الحق في المعنى المعاكس Contresens " (الفكر الرحال).لا تُفسروا، لا تُناقشوا قط:تَواطئوا، تَمريرا لشيء ما. ولئن ليس هذا هو آخر ما قاله دولوز، فلا ينبغي لنا الاستهانة بجملة من الأحقاد، التي أثارها عليه هذا النوع من التصريحات، في "الأوساط الفلسفية" ولا بآثارها على الصورة التي تَكوَّنَتْ عليه، بناء على آليات اشتغال هذه التصريحات وتداولها.لكن علينا، مع ذلك أن نعرف متى تغدو فكرة ما، ذات طابع فج وسطحي.
 
إن الصورة البئيسة التي غالبا ما يُختزَل فيها الفضاء المشترك، الناتج عن الفصل مابين الفلسفة "القارية"والفلسفة "التحليلية"(2)، هي ما يقوم على التضاد مابين الحوار الخاص و حرية التعامل مع الأعمال الإبداعية من جهة ، والنقاش العمومي و أخلاق المقارعة بالحجج من جهة ثانية، مثلما تقوم كذلك، على التقابل العكسي مابين الاشتغال في عزلة والتشارك الحواري. لكن المسألة هي على نحو مغاير و تتوقف بالضبط على النصيب الذي تحظى به المشكلات، سواء من هذا الجانب أو ذاك، كما تتعلق بشكل أعمق، بمدى فهمنا لطبيعة هذه المشكلات.إن الالتباس الناشئ بخصوص هذه النقطة كبير، لأننا نخال أحيانا، على أن السمة المميزة للتقليد التحليلي، إنما هي أننا بالفعل أمام مشكلات.أما القاريين فسيكتفون، من جانبهم بإيجاد تخريجة -على شاكلة مُؤَلِّفِي حروب العمالقة، أو الميلودراما - لتلك التناقضات والتباينات الغير الواضحة المعالم" sous-déterminés " فلسفيا و منطقيا ؛أي العاجزة على أن تكون محط مطارحة صحيحة و تناول دقيق .
 
أما فيما يتصل بقضية المكانة التي يمكن إيلاءها للاستدلال ، فيجب الانتباه إلى أنها ليست واضحة وضوحا تاما، على الإطلاق. إن دولوز، إِنْ كان يفضل حركات اللف والدوران عن الرفض المباشر، وإن كان يكره الاختزالات النحوية أو المقولاتية التي بوسعها أن تُنَشِّط تمارين التحليل الفلسفي، فإنه لا ينفي أبدا قيمة البرهان من حيث هو كذلك.ومن الأشياء الجاري بها العمل عنده ، هناك عملية تحليله لمفهوم ما من خلال أجزاءه(" D comme Désir "cf.L’Abécédaire,) وكذلك بسطه لفكرة ما أو تمييزٍ مُعَيَّن، أثناء حالة ملموسة .بوسعنا القول، اعتمادا على كلامه بأن استعماله للبرهان لا يروم من وراءه دحض أطروحة معينة، حلا لمشكلة ما (بمعنى ، الحسم العقلاني في بديل معين ) أكثر مما يروم من وراءه"تطوير الإستتباعات الضرورية الخاصة بسؤال تَمَّت صياغته، حتى أقصى حدودها الممكنة"(Empirisme et subjectivité,p.119 ).لكن المسألة ، بالرغم من ذلك ، تقتضي ، معرفة إلى أي حد يمكن للبرهان أن يكون ذا قيمة فلسفية بعيدا عن توظيفه في سياق وَضْعٍ إشكاليٍّ خاص، مثلما تقتضي أساسا معرفة بأي شكل ينبغي للمشكلات الفلسفية أن تكون مشكلات مشتركة.
 
والحال أن موقف دولوز من هذه النقطة الأخيرة، موقف لا يشوبه لُبْس.إنه مَصُوغ على نحو مُحرج:"…إذا فهمنا المشكلة التي يطرحها شخص ما، فإننا لا نكون في أية حاجة للنقاش معه:فإما أن نطرح نفس المشكلة التي طرحها، و إما أن نطرح مشكلة أخرى، فَنُبْدِي بالتالي الرغبة في الخوض فيها.كيف يمكننا أن نتناقش، طالما لا نقف على أساس مشترك للمشكلات المطروحة، وما الداعي للنقاش مادمنا ننطلق من الأسس ذاتها ؟"("لقد ابتكرنا الدوامة"حوار منشور بالنوفيل أوبسيرفاتور، 12-18 شتنبر 1991 ).إننا إذن لا نُنَاقِش أبدا، المشكلات، بل دوما الحلول. ومادام أننا نَتَحَصَّل على الحلول التي نستحقها، بحسب المشكلات التي نطرحها"فالنقاشات، هي مجرد مَضْيَعَة كبيرة للوقت، من أجل مشكلات غير مُحدَّدة المعالم".وبما أن دولوز، بطبعه مقماق، فبرغسون هو من يتكلم من خلاله كالتالي:"إني أرى أن الوقت الذي نخصصه لدحض أطروحة ما في الفلسفة، هو في كل الأحوال وقت ضائع"؛" الحقيقة أن الأمر في الفلسفة كما في غيرها، إنما يتطلب العثور على مشكلة ما، وطرحها بالتالي، أكثر مما يتطلب حلَّها".( La pensée et le Mouvant ).
 
إن المسألة من أجَدِّ ما يكون، وتتجاوز كثيرا قضية المزاج أو الكفاءة.من ثمة وجب علينا، الأخذ بما يقوله دولوز كلمة كلمة.إن رفضه للنقاش ، ليس نتاج أطروحة فلسفية عامة ، حول طبيعة الملفوظات الفلسفية، وخصوصيتها "اللا-استدلالية""non-propositionnel "، أي كونها تتمنع عن كل دحض؛إنه منشغل قبل كل شيء، بالتَّبِعات الفعلية للنقاش حالما يكون. فالأمر لا يستدعي، القول على نحو Gueroult و Vuillemin أو Granger ، بأن الدحض لا مجال له في الفلسفة ، على اعتبار أن هذه الأخيرة ، تُنْتِج مواضيعها الخاصة و معايير الحقيقة المميزة لها، في إطار الأنساق الغير القابلة للقياس؛مثلما لا يتطلب الأمر أيضا، الزعم مع ألتوسير، بأن لا مجال للحديث عن الخطأ في الفلسفة، لأنها لا تنتج أي موضوع معرفي ، وتتحدد قبل كل شيء، بمفعولاتها.إننا لن نستطيع فهم موقف دولوز، من النقاش، بتناولنا لأطروحة "كليانية المعنى"(أي تصور كون كل ملفوظ فلسفي لا معنى له ، ولا حقيقة له، إلا في سياق شبكة الملفوظات، و المفاهيم و المشكلات التي يُنْسَج فيها) ولا بطرحنا كما يحدث له أن يفعل هو ذاته، لمسألة ما إذا كان على الفلسفة أن تقول الحقيقة، و ما إذا كان المفهوم قابلا للنقاش، أو ما إذا كان يسمح بالإحالة على وَضْعٍ للأشياء.( Qu’est-ce que la philosophie ?p.27).من ثمة علينا الكشف عما يجري، فعليا حينما ننخرط في النقاش.
والحال، أن المنطق الذي يحكم النقاش، والكلام هنا لأرسطو، والذي ليس هو المنطق نفسه، الذي يحكم الحوارات الأفلاطونية(إن سقراط على حد تفسير دولوز لم يتوقف عن جعل كل نقاش مستحيل)، يُؤَشِّرُ على أن كل جدال منذور، مهما طال الأمد أو قصر، إلى الكف عن الامتثال في صيغة السؤال، ليتحول إلى تصور، يلتزم مُجيب ما، بالدفاع عنه، و مُسائل بدحضه.إن الاعتراضات، هي الأمور الأكثر، إثارة للاشمئزاز، بالنسبة لدولوز:"كلما تم اعتراضي، أجدني في حاجة لأن أقول:"متفق، متفق، لِنَمُر إلى أمر آخر"."ولعمر الاعتراضات، أفادتنا في شيء ".(Dialogues,p.7 ).إننا على علم بقلة ميله ، للندوات والطاولات المستديرة، وكذا كل الأشكال المؤسساتية، التي تأخذها النقاشات الفلسفية. وهذا ليس يفيد أنه لم يعرف كيف يستسلم، للشعار الجامعي، كما للنهج البلاغي، المتعودين على هذا النوع من التمرين، عندما تقتضي الضرورة ذلك.إن الرجل يرى، مثل نتشه، على أن الرغبة في الاعتراض، التي تحرك النقاشات، مشكوك في أمرها:إن قوة إثباتية، ليست في حاجة لِأَنْ تعترض على أطروحة ما، حتى تؤكد ذاتها، وذلك خلافا للرغبة في النقاش، التي هي قبل كل شيء، طريقة في النظر إلى كل الاختلافات وكل المشكلات كما لو كانت تناقضات أو تعارضات.
 
وعلى كل حال، فالنقاش ليس مُنْهِكا (إنه غالبا ما يكون ممزوجا بحقد "أولئك الذين ينتقدون دون أن يبدعوا")وتافها فحسب(وحتى من وجهة نظر بيداغوجية: فدولوز، كان يقدم دروسه سواء بفانسان أو غيرها، على شكل محاضرات)بل هو مُؤْذٍ، لأنه يخلق مجالا تُشَوَّهُ فيه المشكلات، إلى درجة التجرؤ على تقويمها.لأنه حتى عندما، يبدو أن الأمر لا يتعلق باعتراض بل فقط برغبة في الفهم، وحتى حيثما يخال المتكلم أنه بصدد طرح جدي لسؤال ما ، فإننا نكون دوما مجبرين على التعبير، عما نرغب في قوله، بألفاظ أكثر عمومية:"إذا لم تُمْنَحْكُم فرصة صياغة أسئلتكم، بواسطة عناصر متعددة المصادر، وإذا ما كانت تُفْرَض عليكم، فإنكم لن تقولوا الشيء الكثير.إن فن بناء مشكلة ما، في غاية الأهمية:إننا نبتكر مشكلة ما، مثلما نبتكر وضعية مشكلة ، قبل أن نعثر لها عن حل.لا شيء من هذا القبيل يحدث أثناء حوار أو محادثة أو نقاش."(Dialogues,p.7 ).
( Application tirée de l'Abécédaire, « Q comme Question » : « Croyez vous en Dieu ? » ).وإذا كانت الاعتراضات، في معظم الأحوال، "تستدعي انتقاد نظرية ما، دون الأخذ بعين الاعتبار، طبيعة المشكلة التي تجيب عنها"(Empirisme et subjectivité,p.118) فالأسئلة، من جهتها، تزُجُّ بالمشكلات، في غياهب النسيان.لذلك، فالنقاشات، هي دوما على أهبة إقحام الفكر في صيرورة ارتكاسية ، تحول دونما تقويم الملفوظات و المفاهيم، أي أنها تحول دونما الانطلاق من جهة المشكلات، باعتبارها الفضاء الحقيقي للإبداع الفلسفي. إننا، عندما يبدأ النقاش، نكون سلفا، قد اتفقنا حول جدواه وأهميته؛ بديهي إذن، أننا لن نختلف أبدا إلا حول الأطروحة "المشكلة" التي من حقنا مناقشتها، والتي لا تتفاوت في شيء، عما نحن مجبرين على مناقشته، على كل حال. وهكذا تكون فرصة اختبار مدى حقيقة المشكلة ذاتها، قد فاتت(المشكلات المغلوطة). يقتضي منا درس دولوز، بَعْدَ طَيِّ نتشه(لنا قدرما نستحقه من حقائق بقدرما نتبناه من معاني وقيم)على برغسون(لنا الحلول التي نستحقها بحسب المشاكل التي نطرحها) تِبْيَان أن الفضاءات المشتركة، في نطاق الرأي، لا تتعلق فحسب بالأفكار "الموروثة"بل تتعلق أيضا، بالمشكلات ( الناجزة سلفا) أيا كانت فلسفية أو اجتماعية.
 
إيلي دورينغElie During أستاذ للفلسفة بجامعة باريز10-نانتير.له كتاب بعنوان:"الروح والميتافيزيقا (GF-Corpus)وآخر تحت اسم:"بوانكاري، العلم و الفرضية"(Ellipses).

هامش:

1- إذا كانت الفلسفة القارية، تسمية أطلقت لأول مرة على تلك الفلسفات التي تنحدر من القارة الأوربية(ألمانيا تحديدا وفرنسا)، فالفلسفة التحليلية هي الفلسفة الأنكلوساكسونية.أما الجدال مابين الفلسفتين، فيقوم على مؤاخذة الفلسفة القارية، لنظيرتها التحليلية، على كونها تتبنى بسذاجة المنظور العلمي و الشكلاني دونما مساءلتها للمسلمات و الفرضيات.هذا في حين أن الفلسفة التحليلية تتهم غريمتها بالغلو في التفسيرات دونما توضيح للمشكلات الفلسفية أو إخضاعها للاستدلال، بغاية العثور لها عن حلول.(عن ويكيبيديا)
المرجع: عن الماغازين ليترير، العدد 406 فبراير 2002.

المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

فلاسفة