الفن والاستعمار.. سعي السلطة للسيطرة على الثقافة

ما الذي قد يُنقذ بلادًا تُكابد الاستعمار مِن الخارج والاستبداد يكمن في الداخل؟! لقد قاوم الناس طويلا الأنظمة الاستعماريّة والحكومات الاستبداديّة وسلطة الطغاة بالفنون حين افتقروا للمدافع.

والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف نفهم تلك العلاقة المُعقّدة بين الفنّ والسياسة؟ كيف نشأت علاقة بين سلطوية المُستعمِر والهوية الفنيّة للواقعين في نير الاستعمار؟

فما الذي استفز القوى الاستعماريّة في حلقات الرقص الضيقة الصاخبة للزنوج. لماذا أراد المُحتل الاستيلاء على الهوية الفنية لأولئك الذين بلغت بهم النشوة عنان السماء؛ فلا سلطة إلا سلطة الروح. الروح المُتجليّة بكُلّ بهائها ورقتها وعنفوانها وهي تتماهى مع ايقاع قوي ومستحكم لموسيقى تعيد انتاج الحياة. وتهزم الموت بمعناه المبتذل.

ثمّة إذن، صدام عنيف بين الاستعمار والفن. فالفن لا يعترف بأي قيود. والاستعمار لا يعرف غير إقامة الجدران وغلق الآفاق جيّدا. لكنّ الفنّ لا جدران له غير عنان السماء. وتحت سلطة الطغاة وأنظمة الاستبداد، لا يجب أن تحلق الفنون في فضاء المخيلة. بل صار لزاما على المُستعمَرين أن يصيروا تافهين ومبتذلين وبلا هوية.

في تقديمِه لكتاب فرانز فانون "مُعذبو الأرض" يورد جان بول سارتر: "لمَّا كان لا يستطيع أحد أنّ يسلب رزق أخيهِ أو أنّ يستعبده أو أنّ يقتله إلا ويكون قد اقترفَ جريمة فقد أقروا، يقصد المُستعمِرين، هذا المبدأ: أنّ المُستعمَـر (الواقع تحت الاِستعمار) ليس شبيه الإنسان. وعهد إلى قواتنا، يقصد القوّة الاِستعماريّة الأوروبيّة، بمهمة تحويل هذا اليقين المُجرد إلى واقع. صدر الأمر بخفضِ سُكان البلاد المُلحقة إلى مستوى القرودِ الراقيَة مِن أجل تسويغ أنّ يُعاملهم المُستوطِن مُعاملة الدواب. إنَّ العنف الاستعماريّ لا يُريد المُحافظة على اِخضاع هؤلاء البشر المُستعبَدين، وإنّما يحاول أن يُجردهم مِن إنسانيتهم."
 
سلب الهوية
في مجال الفنون التشكيلية، كغيره من المجالات، حاولت الأنظمة الاستعمارية سلب البلاد والشعوب الخاضعة لهيمنتها لغتهم الفنية الخاصة.

لقد كان هدف المُستعمِر منع تحوّل الفنّ إلى جهاز لتنشيط صناعة المعنى. فقد كان لديه رغبة عميقة في حبك السيطرة على كل الآليات التي يمكنها تثوير عقلية الواقعين في نير الاستعمار الذي يظهر بوصفه نشاطًا أيديولوجيًا يقوض مختلف مجالات التعبير في طريقه لطمس وسلب الهوية ككل. وحتى سلب الهوية في حد ذاته كان هدفه تعجيز  الذات المُحتلة عن معرفة نفسها وإدراك حجم قوتها. 

وقد شهد الفن التشكيلي الغربي، في أوج التوسع الأوروبي في القرن التاسع عشر والعشرين، مجموعة من التحولات الجذرية التي اعتمدت على روافد أفريقيّة بالكامل. ليظهر بعد ذلك عدد من أبرز مدارس الفن التشكيلي الحديث مُفتقدة هويتها الأفريقيّة ومتصبّغَة بصبغَة أوروبيّة حتى نُسبت لأوروبا بالكامل؛ فرنسا على وجه التحديد.

إلا أن تلك المدارس الطليعية، لم تكُن وليدة اللحظة، في الواقع، بل كانت تنهل من بحر واسع من التماثيل والمنحوتات والأعمال الفنيّة الأفريقيّة التي نقلها الاستعمار إلى وطنه الأم في خضم تجريد المُستعمَرين من هويتهم الثقافية. فبدءًا من عام 1870، وصلت لأوروبا آلاف القطع الفنيّة التي تلت عقوداً من الغزو الاستعماري لأفريقيا.

لقد كانت الفنون الأفريقية على وعي عميق بالجمال الشخصي للإنسان من الداخل. وقد رفضت تلك الفنون الطبيعة بشكلها المألوف للعين لعدم قدرتها على تمثيل خيالات الإنسان الميتافيزيقية المتجاوزة أو مخاوفه الوجودية الحاضرة. وقد لاقت الآثار المُهربة، أو التي انتقلت مع البعثات الاستكشافيّة، والتي عُرضت في متاحف باريس بعد توسع الإمبراطورية الفرنسية في أفريقيا، اهتماما واسعًا من الفنانين الطليعيين. وقد أُطلق على تلك الأشكال الغريبة للمنحوتات والأقنعة الأفريقية مصطلح "بدائية" (Primitivism).

وقد كان التأثر بالجماليات الأفريقية مُتجذرًا في المدارس الطليعية الوحشية والتكعيبية بالذات إلا أن تلك المدارس قُدَّمت كمنتج فني أوروبي خالص بدلا مِن اعتبارها منتجا ذا أصولٍ أفريقية. ففي الفترة من 1906 وحتى 1909، بُعيد الحرب العالمية الأولى، أحدثت لوحة "آنسات أفينيون" التي رسمها بابلو بيكاسو، وغيرها من لوحات تكعيبية على النمط الأفريقي، ثورة في مجال الفنون التشكيلية. مُسدلة بذلك الستار على المنهج الكلاسيكي في الفن والذي ميّز البرجوازيّة الأوروبيّة. ما فتح الباب على مصراعيه أمام كل الفنانين لضرب كل القواعد الأكاديمية للرسم عرض الحائط.

بيكاسو ليس الوحيد الذي اعتمد على جماليات الفن الأفريقي في ابتداع مدرسة فنية طليعية (التكعيبية). فآخرون، مثل الفرنسي هنري ماتيس والألماني بول كلي والفرنسي أيضًا بول جوجان وغيرهم اعتمدوا على تلك الجماليات للقفز خارج البرادايم الذي سيطر على الفن الغربي منذ عصر النهضة.

ولا يزال هنري ماتيس (1869 – 1945) حتى اليوم يتصدر مشهد الفن الحديث، إلى جانب بيكاسو بوصفهم الأعمدة الأساسية التي أحدثت ثورة بصرية لاتزال ممتدة لأكثر من 7 عقود. وعلى الرغم مِن أن العديد من لوحات ماتيس رُسمت بأسلوب تكعيبي، لكنه اكتسب شهرته الأساسية من المدرسة الوحشية.

والوحشية، مثلها مثل التكعيبية، اعتمدت بفلسفتها وأسلوبها في العرض على الفنون الأفريقيّة. فقد عَمَدَ الوحشيون إلى استخدام ألوان جريئة للغاية وحارة (وحشية)؛ إلى جانب رسم الأفراد في فضاء ثنائي البُعد مثل لوحة "الرقصة"[5] لماتيس التي أتت قريبة الشكل من حلقات رقص الأفارقة. ويظهر التأثر بالنمط الأفريقي عند ماتيس في المنحوتات أكثر من اللوحات. مثال ذلك، تمثال "شخص مزخرف من البرونز" والذي ظهرت فيه الزاوية حادة؛ والوجه شديد الشبه بالمنحوتات الأفريقية التي ظهرت في معرض باريس.

غير بيكاسو وماتيس، اقتبس معظم أصدقاء مدرسة باريس للفنون من أثر الفنون الأفريقية. فقدم الرسام الفرنسي بول جوجان تمثال أوفيري الذي يُمثل الحياة البرية الوحشية فأوفيري تقف على أنثى ذئب ميتة وتمسك في يدها كأس الحياة. على نفس الأثر يمضي الرسام الألماني بول كلي (1879 – 1940)، والذي قدم "قديس النور الداخلي"[8]، عام 1921، ويظهر هنا متبعًا النمط الذي أطلقوا عليه "البدائية".

سيطرة ثقافة المركز
لقد صوَّغ الاستعمار لسياسات ومآلات الهوية الثقافية بل وربطهما بأدوات العنف والسيطرة. ووقوفًا على ما أنجزه مفكرون أمثال إدوارد سعيد وهومي بابا في قراءة الخطاب الاستعماري، فقد أحالت آلة الاستعمار الأوروبي أفريقيا إلى سلة وجَبَ إخضاع كل ما فيها للسيطرة والهيمنة لتحقيق فوائد اقتصادية. لكنها في الوقت نفسه تقنعت بقناع تأهيل المكان غير الآهلة بهدف "تطويره حضاريًا."

وقد أفضى ذاك "التطوير الحضاري" الكاذب إلى حالة تَشْوِيه وإعطاب، إنساني واقتصاديّ وسياسيّ، راسخة في بنية البلاد المُستعمَرة. ونتيجة فخّ تاريخيّ، تلاعبت الأنظمة الكولونيالية بالهويات العرقية والإثنية، وعملت على تقويض الخصوصيات الثقافية المحلية، بل وطمسها وأحيانا سرقتها، لبسط سيطرة ثقافة المركز.


المراجع

www.aljazeera.net

التصانيف

فكر   اصطلاحات    مصطلحات فلسفية   الفلسفة