نستطيع محاربة الديمقراطيّة من الداخل، لكنّ الديمقراطيّة لا تستطيع محاربة الإسلام، أو لا تستطيع الجهر بذلك على الأقل. هكذا صرّح أحد روّاد الأصوليّة ذات عام، وربّما وضع يده على أصعب مشكلة تواجه الديمقراطيّات الغربيّة، إذ وجدت البلدان الأوروبيّة نفسها في مأزق غير مسبوق جرّاء المصاعب التي يخلقها لها الإسلاميّون اليوم في عقر دارها. فهل تسامح حائط الديمقراطيّة أغرى لصوص الأصوليّة؟ هل يستغلّ الإسلام المناضل الحرّيّة وجواز السفر الأوروبيّ والإعانات الاجتماعيّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان المتاحة في الغرب لينقلب على نعمة الحداثة؟ إلى متى تبقى الجاليات الإسلاميّة المتواجدة في الغرب حصان طروادة الذي يمتطيه المتشدّدون في هجومهم على الحرية؟
وهل تكون فرنسا، ومعها الغرب كلّه، في طريق الـتأسلم؟ أم لا يتعدّى الأمر مجرّد ’خوف مرضيّ’ من الإسلام يجتاح أوروبا وأمريكا اليوم جرّاء ما يفعله الإسلاميّون من مناكر؟ هل يندمج المنحدرون من أصول عربيّة وإسلاميّة في المجتمعات الغربيّة الديمقراطيّة العلمانيّة؟ أم يعملون تحت ضغط النشطاء الأصوليين وإرشاد ’المجلس الأوروبيّ للإفتاء’، وكثير من المنصّبين أنفسهم أوصياء على الإسلام، على افتكاك الاعتراف بخصوصيّاتهم الثقافيّة وما ينجرّ عنها من مطالبات بقوانين خاصّة بهم مستمدّة من الشريعة الإسلاميّة؟ هل يكتفون بما تمنحه العلمانيّة من حرّيّة اعتقاد أم يطالبون بالمزيد، إلى حدّ التحالف مع أعدائها من أصوليين مسيحيين ويهود ومتطرفين يساريين ويمينيين للإطاحة بها نهائيّاً وإقامة الشريعة على الأقل في مرحلة أولى في المناطق التي يشكّلون فيها أغلبية؟
أمام رحى الجماعة الإثنيّة والدينيّة التي ما انفكّت تحاول ربط وإذابة المغترب الآتي من بلاد الإسلام في جماعة إسلاميّة وفصله ثقافيّاً عن المجتمع المضيف، كيف تتصرّف آلة الحداثة التي تعمل على إدماجه في المجتمع بجعله فرداً حراً مستقلاً؟
مع بداية ثمانينيّات القرن الماضي، بدأ يظهر على الشبّان ذوي الأصول المغاربيّة والهندو- باكستانية المولودين في أوروبا نوع من التديّن الجديد، يختلف جذريّاً عمّا كان سائداً لدى آبائهم. لم يكن تديّنهم، وعلاقتهم بالإسلام عموماً، مجرّد استمرار لذلك التصوّر التقليديّ الذي كان يحمله الجيل الأول من المغتربين. ذلك التصوّر الموروث شفهيّاً، الآتي مع الحقائب من البلد الأصليّ، ابتداء من منتصف القرن المنصرم، والذي كانت تبني عليه جماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ لاحقاً احتكارهما لدور الدعوة بين صفوف المهاجرين إلى بداية التسعينيات.
تحت ظروف معيشية وتأثيرات خارجية وابسيكولوجية عديدة ابتدع الجيل الثاني، واستورد في آن واحد، حركات سلفية متنوعة كانت مهمّشة في البداية أمام حركة الإخوان المنسجمة تنظيمياً وفكرياً، وعلى الخصوص مالياً. بدأت سلفيةً عبادية لكن سرعان ما تفرعت عنها سلفية سياسية أنجبت بدورها في نهاية التسعينيات سلفية جهادية متعددة المشارب بل متناقضة المذاهب، تختلف من بلد أوروبي إلى آخر، فرضت نفسها كشريك أساسي في أسلمة أوروبا، وهكذا أصبحت تمول في العلن بأموال النفط وجمع الأموال في المساجد في كل أنحاء أوروبا إلى أن ضربت ضربتها العظمى في بلاد العم سام في الحادي عشر من سبتمبر2001، غزوة نيويورك التي باركها المسلمون في مغارب الأرض ومشارقها.
تتباين العلاقة التي تقيمها السلفية مع مجتمعات "دار الحرب" التي تنشط فيها إذ تتكيف مع قانون كل بلد، تفتك رخصة استثنائية من هنا، تفتح منفذاً في جدار اللائكية من هناك، ويفجر أحد أفرادها نفسه ليقتل أعداء الله من مستعملي القطار والمطار وحيثما وجد الكفار.. لكنها تبقى في مجموعها هادفة وممولة في السر وبأشكال تمويهية مختلفة إلى غاية واحدة هي التمكين لدين الله لتسهيل إقامة شرع الله على المسلمين في أوروبا، في انتظار تعميمه على الأوروبيين أجمعين.
من ابن حنبل (780-855) الذي عاش صراعات عصره واقتتال المسلمين فيما بينهم، مروراً بابن تيمية (1263-1328) الذي عايش غزو المغول لبلاد المسلمين ووصولا إلى محمد ابن عبد الوهاب (1720-1792(، المتسلح بفكر سابقيه، المتسائل عن ضعف المسلمين و تفوق الأوروبيين، يعلمنا التاريخ أنه كلما وجد المسلمون أنفسهم في أزمة معيشية أو مذهبية أو أي فتنة كانت، كان فقهاؤهم ينادون إلى العودة إلى إسلام السلف الصالح حتى أصبحت هذه الفكرة وإلى اليوم فلسفتهم الوحيدة بل غدت دواء لكل علة.
لكن إذا تفهم الدارس الأمر بسهولة حينما يكون متعلقا بالنشطاء الذين يعيشون في أرض الإسلام أو الذين جاؤوا منها، يصعب عليه أن يجد تفسيراً لعودة من وُلدوا في الغرب إلى سلف صالح مفترض، آملين أن يجدوا لديه وصفة لحل مشاكلهم اليوم! كيف يمكن أن يتهافت شبان يعيشون في قلب الحداثة الأوروبية على فتاوى يصدرها ويرسلها لهم شيوخ دين يعيشون في دول عربية متخلفة تخلفاً مريعاً، فقهاء وكتاب يبدو من أقوالهم وكتاباتهم أنهم من البشر الذين لم يبرحوا المرحلة اللاهوتية بعد؟
تتفق كثير من الدراسات الديمغرافية على أن نسبة السكان المنحدرين من أصل إسلامي قد وصلت في بداية هذا القرن إلى 5 بالمائة من سكان أوروبا وتتنبأ بعض دراسات مستقبلية أخرى أنها ستصل إلى حوالي 15 بالمائة في حدود سنة 2025. أحياء بكاملها أصبحت اليوم إسلامية قلباً وقالباً يشعر فيها الفرنسيون غير المسلمين كأنهم غرباء في بلدهم بل غير مرغوب فيهم أصلا! أحجبة وأنقبة وبوركات وتجار حلال في كل مكان .. طُرد لحم الخنزير وكل لحم غير مذبوح على الطريقة الإسلامية، واستبدلت الجعة وخمر بوردو اللذيذ في مقاهي تلك المناطق المؤسلمة بالشاي المنعنع وحمود بوعلام ومكة كولا وغيرها من السلع الخارجة عن مراقبة أجهزة الدولة التي أصبحت تغمض عينيها مقابل سلم اجتماعي هش!
هل ستكون الجاليات المنحدرة من "الثقافة الإسلامية" هي مشكلة الغرب الأولى في القرن الحادي والعشرين، كما يتنبأ كثير من المفكرين؟ هل ستسود الشريعة أوروبا كما يحلم كثير من المسلمين؟ وكيف يعمل الأصوليون منهم في تحقيق ذلك الهدف؟ وما هو رد الأوروبيين المحتمل على هذا الغزو الإسلامي؟

المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  أحداث جارية