ينتاب المرء أحيانا قلق وتخوّف من أن تكون الحداثة قد غدت عند بعض كتّابنا "الحداثيين" مجرّد شعار. وحتى إن لم يكن الأمر قد بلغ هذه الدرجة فعليا، فيبدو أنّ الحداثة تحوّلت عند كثير منّا إلى مفهوم عامّ مجرّد أخذ يحجب كونها أساسا حركة انفصال قطاعية جهوية "تحدث" تدريجيا عند نقاط متعدّدة، نقاط مبعثرة لا تجد بالضرورة مصدرها ومعناها في حركة كلية تخضع لمنطق عامّ وإيقاع موحّد.
فالحداثة مفهوم عن الزمن، عن التاريخ، وتاريخ الأفكار على الخصوص..
والحداثة مفهوم عن المنظومة والبنية، وموقف من الكلّية والشمولية..
والحداثة مفهوم عن توليد المعاني، عن تداولها وتأويلها، عن تستّرها وانكشافها…
والحداثة مفهوم عن الوعي واللاوعي، عن الحضور والغياب، عن الخطأ والحقيقة..
الحداثة لغة، وهي كتابة وشكل. إنها علاقة للشكل بالمضمون. أو قل هي أن يغدو المضمون شكلا، والمعنى مبنى..
لا يمكنني، والحالة هذه، أن أكتب نصّا حداثيا إن أنا اكتفيت برفع التنوير شعارا، واقتصرت على التغنّي بالتحديث، و"التغزّل" في الحداثة، من غير أن أعي أن الكتابة عن الحداثة، هي أوّلا وقبل كلّ شيء، "كتابة حديثة": كتابة تخضع لموسيقى حديثة، وكثافة حديثة، واقتصاد للكلمات حديث. الحديث عن الحداثة يملي عليّ كتابةً ذاتَ "شكل" حديث.
لا يمكنني أن أكتب عن نيتشه، على سبيل المثال، كتابة غير حديثة، أي كتابة لا تعيد النظر في مفهوم الزمن، في فكرة الكلية، في مفهوم التاريخ، في مفهوم المنظومة، في مفهوم اللغة، في مفهوم الحقيقة، في معنى المجاز، في موسيقى الكتابة… كتابة لا تعرض فلسفة نيتشه بحيث تتلبس طريقةُ العرض معانيَ المضمون. لعلّ هذه هي الثورة التي أحدثها في فرنسا موريس بلانشو في طريقة تناوله لـ"فلسفة" نيتشه، تلك الطريقة التي يمكننا أن نقول إنّها هي التي كانت وراء معظم "القراءات الجديدة" التي عرفتها تلك الفلسفة في فرنسا. حتى أنّه بإمكاننا أن نقول إنّه لم يعد من حقّ المرء اليوم أن يكتب عن نيتشه من غير وعي منه أنّه يكتب عنه "بعد" بلانشو.
والأمر لا يختلف ربّما عن باقي أقطاب الحداثة، لا الحداثة الفلسفية وحدها، وإنّما الحداثة الشعرية، والحداثة النقدية…. كلّ "جهات" التحديث هاته تفرض عليّ ألا أتحدّث عنها إلا بواسطتها، وتضعني في موقف "مرآتي" يستخدم الوسائل ذاتها التي يريد أن يبحثها، ويوظّف المفكّرين أنفسهم الذين يريد أن يتحدّث عنهم.

المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  أحداث جارية