" عَلى المَرْءِ أَلاَّ يَتَفادَى اخْتِبَارَ نَفْسِه ِ"
(نيتشه)
(1)
في آخر المقطع الثامن والعشرين من كتاب " ما وراء الشّر والخير…"، يُشِيرُ نيتشه إلى وَاقِعَة وَصَلَتْناَ " لِحُسْن ِالحَظّ " عن أفلاطون. تشير الواقعة إلى أنّ أفلاطون، حين دَاهَمَهُ الموت، لم يكن تحت وسادته لا " إنجيل " ولا شيء مِصْرِياً، فيتاغُورياً أو أفلاطونيا، بل نُسْخَة من أرسطوفان.
يُعَلِّقُ نيتشه على هذه الواقعة بقوله؛ " كيف كان لأفلاطون أن يطيق ـ حياة يونانية يرفضها ـ من دون أريسطوفان ؟ "
(2)
تشير عبارة أريسطوفان، كما يستعملها نيتشه هنا، إلى النقد والسّخرية. فأريسطوفان، هو أحد شعراء اليونان الهزليين، عُرِفَ بمسرحياته التي انتقد فيها رجال الدولة والفلاسفة والمجتمع، وحتى الآلهة لم تَنْجُ من نقده.
(3)
لعلّ في إشارة نيتشه إلى ما كان يتوسّده أفلاطون، في اللحظات الأخيرة من حياته، ما يُشير إلى رفض هذا الأخير ما كان يعتمل في الحياة اليونانية، من مظاهر وسلوكيات، ممّا لم يكن أفلاطون يقبله. والإقبال على أريسطوفان، هو تعبير عن رفض واقع، لم يكن أفلاطون يحتمله.
(4)
لا يعني هذا أنّ أفلاطون لم يكن يملك القدرة على نقد واقعه، وعلى قول ما ينبغي قوله. بل إنّ أفلاطون، ربّما، في لحظات العجز، التي أصبح يرى نفسه فيها، غير قادر على تحريك لسانه أو يده، كان أريسطوفان، بالنسبة له، أحد مظاهر التعبير عن رفضه لحياة لم يكن مقتنعاً بما يحدث فيها، فاختار أن يكون غيره هو لسانه وسِنَانُهُ.
(5)
اختيار أريسطوفان، لم يكن صُدْفة،ً أو عَبَثا بالنسبة لأفلاطون. فهو كان نوعا من العزاء الذي أراد أفلاطون من خلاله تأكيد ممارسة نقدنا للواقع، وعدم الانصياع لبعض ما قد يبدو فيه من انفراجات، قد تُصبح، فيما بعد، " قِشْرَةً " لا نَنْتَبِه لِمَا تُخفِيهِ من مَزَ الِق. فـ"كلّ قِشرة تَبُوحُ بشيء وتَسْتُر أشياء"ً، كما يقول نيتشه نفسه.
(6)
بهذا المعنى أفهم تعبير " الروح الحرّ "، الذي اختاره نيتشه كعنوان للفصل الثاني من كتابه. الشّكّ والارتياب، يجعلان الروح يقظة، ولا تقع في" خَدَرِ الحَوَاسِّ ". فَهُمَا بمثابة المسافة التي تحفظ حرية الفكر من السّقوط في استعباد اليقين. أعني " المؤسسة "، أي في"تلك النظرة الثابتة التي تُحدِّق في شيء واحد دون سواه".
(7)
لم يكن نيتشه، وهو يُشير إلى واقعة أفلاطون، ويُعلِّق عليها، عاجزا هو الآخر عما يجري، في زمنه، وفي غيره. فكتاب " ما وراء الخير والشر"، كان بامتياز، كتاب نقد لكلّ القيم، بما فيها الحداثة، التي، إذا أصبحت يقيناً، ستصير "صَنَماً"، ومعياراً، ربّما، لقياس فرق المسافة بين الصَّواب والخطأ، وهو ما يعني السقوط في أحضان الميتافيزيقا رأساً.
لاشيء عند نيتشه " يُعفي المرء من الحاجة إلى مضاعفة الارتيـاب والسُّؤال"، في كلّ شيء، حتى في "الفكر نفسه".
(8)
إنّ ارتياب أريسطوفان، هو ما ضاعف سؤاله ونقده لما كان يجري في زَمَنِهِ. وأفلاطون، كان في حاجة إلى سُخرية أريسطوفان، إلى نقده الجارح، الذي لم يَنْجُ منه حتى سقراط، لأنّه كان بالنسبة له بمثابة المرآة التي، رغم أنّ أفلاطون رأى فيها وجهه لِآخِرِ مرَّة، فهي ستظلّ مرآة لمن يأتي بعده. والنقد بهذا المعنى، مرآة، النظر فيها " واجب " ولو" بعين شَزْرَاءَ خبيثة".
(9)
لا ينبغي إذن أن نعتبر " المثال " القائم، أو ما هو مُتاح من أفعال، أو مُؤَشِّرَاتٍ تَشِي بانفراجات ما، نهايةَ الطّريق.
ثمّة دائماً، مطبّات، ومَزَالِقَ تَحْدُثُ بفعل الخَدَرِ الذي نَسْتَلِذّهُ، ونَنْتَشِي بِرَخَاوَتِهِ، ما دام الإنسان " قشرة " الواقع.
(10)
أذكر بهذا الصّدد، ما حدث من ثورات، والشِّعارات التي رفعتها، في بداية أمرها، وما آلَتْ إليه من فساد، حين نَسِيَتِ الحاجة إلى السّؤال، أو حين اختارت أن تركن للقَناعات، وهو نفس فساد الأفكار والمفاهيم والتصوّرات التي تبقى رهن وَاحِديتها، لا تُعَدِّدُ منظوراتها، أو تُوَسِّعُها وتُنصِت للمُختَلِف والخارِجِ.
القَنَاعات أقنعة، بها نُخْفِي ما يَثوِي في صُدُورِنا من حالات العَطَبِ والفَسَادِ.
هذا ما دعا أفلاطون إلى تَوَسًّدِ أريسطوفان، حتى لا ينام في العسل، أو يسقط في خَدَرِ حلاوة تُخفي تحت قشرتها مرارات لا تُحصى.
المراجع
alawan.org
التصانيف
تصنيف :فكر اصطلاحات مصطلحات فلسفية العلوم الاجتماعية