حلقة 3

هي: بعد انهيار الأمل الذي تجدد برسالة زوجها.. عبر مبعوث تبخر مختفيا بمجرد تسليمها الرسالة ورضيت بالأمر الواقع.. بقيت تعد الأيام والشهور لانقضاء فترة الخمسة أعوام ليجتمع شمل الأسرة من جديد بعد طول انتظار وترقب.. لم تدم فرحتها طويلا، لتدور بها الأرض وتموج، وتغيب عن الوعي، فقد صعقها الخبر الذي قرأته في تلك الصحيفة، فوقعت مغشيا عليها من هول الصدمة.
استفاقت في اليوم التالي على أصوات بكاء أبنائها الصغار، وقد التفوا من حولها شاخصة أبصارهم نحوها ، وقد تواجد إلى جانبهم بعض الجارات من أصدقاء أمهم، اللواتي تناوبن على القيام بواجبات البيت واحتياجات الأسرة..إنها عادات أهل القرية الطيبين.. كانت ما تزال صحيفة الأمس المشئومة، موضوعة على الكمدينو بجانب سريرها.

لكن أمرا مفرحا وقع لاحقا غير حالها فجأة ؟ عندما دخلت إحدى جاراتها، وبيدها صحيفة فيها خبر ينفى صحة ما جاء في مقال علمي نشرته الصحيفة بالأمس واعتذار عن خطأ مطبعي كان قد سقط سهوا.. حيث يؤكد الخبر الجديد صحة المعلومات فيما يتعلق باختلافات الزمن في الفضاء الخارجي.. وأما بخصوص باطن الأرض فلا احد يعلم شيئا عن اختلاف الزمن.. معتذرة للقراء عن خطا غير مقصود..وما أن انتهت جارتها من قراءة ما أوردته الصحيفة من أخبار مفرحة للأسرة، حتى بدأت الزوجة في استعادة نشاطها،وحيويتها، وعاد لها الأمل قويا بعودة زوجها، وقد استبشرت خيرا بالمستقبل وهى تنظر إلى أطفالها، وابتسامة مشرقة غمرت محياها، و بدلت أحوالها، وشعرت كأن جارتها قد مدت لها حبل النجاة، فخرجت من بئر سحيق، كادت أن تلفظ فيه أنفاسها اختناقا.

هو: عندما أنهى رسالته المقتضبة إلى زوجته، وأعطاها لصديقه الجديد الذي تكفل بإيصالها بكل سهولة إلى زوجته ؟ جلس يستذكر الشهور الأخيرة التي مرت عليه، حتى وصل إلى حيث يكون الآن ...
كان يتقدم شاقا طبقات الأرض المختلفة بإصرار غريب.. وقرار حاسم لا رجعة فيه بالاستمرار في رحلته مهما كلفه الأمر.. تدفعه قناعاته الراسخة بأهدافها السامية، فيما لو تحققت نظرياته ودراساته... كان يشق طبقات الصخور.. يرى وميض الشرر يتطاير من جوانب مقدمة الحفار ..يبطئ تارة ويسرع أخرى.. ما بال هذه الطبقة مستعصية ؟ تكاد أن تحطم شفرات الحفار المصنوع من سبائك معدنية من الفولاذ المقوى.. كان يسأل نفسه في كل مرة يبطئ فيها سير الحفار...
ينتبه إلى مؤشر الحرارة الذي وصل إلى الخط الأحمر.. يرتبك ، يرتعب،يشعر بوحدة تخنقه، يبدأ الخوف في التسلل إلى قلبه، يشعر بضعف وضياع حلمه، تبدأ الهواجس في عقلة، وتتزاحم التساؤلات في رأسه: ماذا لو انصهرت مقدمة الحفار؟ وعلق محجوزا بين الصخور ؟ وفشلت رحلة العمر ؟ حيث الموت والمجهول.. و فناء أجله في أعماق سحيقة.. وحيدا، معزولا عن أسرته وأهله و قريته.. فلن يقام له بيت عزاء، ولن يدفن في مقابر أهل القرية.. هواجس مرعبة دارت في رأسه، تعلن عن إحباط شديد، وتراجع في عزيمته في تلك اللحظات.. لكنه يقاوم بشدة، ويتغلب على مخاوفه وهواجسه.

فجأة، تغمر الحفار المياه .. تندفع من جوانب الشفرات المهولة للحفار..يدخل في بحيرة مياه باردة، حيث انخفضت درجات الحرارة في مؤشرها سريعا.. يهلل، يفرح، يرقص في داخل كبينته.. كان يتوقع تبريدا طبيعيا، حسب خططه الموضوعة لتبريد الآلة العجيبة، بواسطة انهار المياه والبحيرات المتواجدة في باطن الأرض.. يتجدد أمله، فيستمر في التقدم بخطى حثيثة، وبإصرار الواثق من علمه وإحكام خططه، و من رعاية الخالق أولا وأخيرا..كان يؤمن بالقدر، وبخالق السماء والأرض وما فيهما من كائنات وموارد ومفاجئات لم تكتشف بعد؟ كان يؤمن بالعلم وتحطيم المستحيل.. واكتشاف طريق الكنوز ليغير بها واقعا مريرا، قد استشرى فيه الفقر والتخلف، واخذ أبعادا مدمرة للأجيال المتعاقبة.

قام بالتزود بالماء، من فتحات خاصة صممت لهذا الأمر المحسوب بدقة..استمر الحفار في التقدم وسط بحيرة المياه، بواسطة استخدم خاصية الدفع المروحي الخلفي، فقد تحول الحفار في وظيفته إلى ما يشبه الغواصة، تمخر أعماق البحار.. لقد فكر واحتاط لكل التفاصيل والاحتمالات مسبقا.. وفقا للمخططات والدراسة التفصيلية لسير الرحلة.. استمر في التقدم بعد عودة الحرارة إلى معدلاتها.. فجأة يغوص في سائل اسود كثيف.. لاشك بأنه زيت البترول الخام، حدث نفسه.. ساعد هذا على تزيت جسم الحفار، وترطيب الآلات والتروس والشفرات الرهيبة في مقدمته.. والتزود بالوقود ومليء الخزانات الاحتياطية.. كانت الأمور تسير حسب الخطط الموضوعة مسبقا، وحسب التنبؤات التي رصدها، وتوقعها قبل بدء رحلته، وتدخل في الحسابات والحيثيات الفنية الدقيقة لرحلة العمر. بينما يغوص الحفار في الأعماق السحيقة لباطن الأرض .. كان يقوم بتسجيل مذكراته.. يكتب كل شيء يمر به.. اليوم يصادف مرور عاما كاملا وهو ما يزال يخترق جوف الأرض السحيقة .. ينظر إلى عداد المسافة ليوثقه في مذكراته.. ينبهر ويذهل حقا، فقد تجاوز ثلاثة آلاف كيلومتر..

بينما كان يسجل هذا الحدث ..وإذ به ينفذ من طبقة صخرية سميكة.. ليجد مقدمة الحفار وقد تدلت في فضاء غريب عجيب، لم يتصوره احد من البشر؟ كانت هذه الطبقة الصخرية بمثابة سقف مهول لفضاء يشبه الكهف بلا حدود أو نهايات له .
يوقف الحفار العملاق بسرعة، يطفئ موتوره، يشغل الكوابح الخلفية القوية، لتثبيته قبل أن يسقط في ذاك الفراغ المهول الذي يراه من فتحات الكبينة الأمامية بزجاجها السميك .. يفتح باب كبينته.. يجد نفسه معلقا في سقف صخري.. وأسفله فراغ رهيب، شاسع على امتداد بصره ! ينبعث من هذا الفضاء نور باهت، يشبه نور الصباح على الأرض قبل شروق الشمس مباشرة.. يمسك بمنظاره.. يبدأ في البحث على نهاية لهذا الفضاء الغريب العجيب في الأعماق؟ وسط ذهول ووجوم كاملين.. يُقرب المنظار إلى أقصى حدوده ..فجأة، تنفرج أساريره.. تعلوه ابتسامة ارتياح وفرح.. لقد تلمس أخيرا نهاية له، ففي الأسفل توجد ارض وبها أشجار وخضراء.. يرى بحيرة من المياه فيخالجه إحساس وشعور بالظفر والنصر .. وبينما هو في حالة من النشوة والانتصار.. تصعد إليه أجسام طائرة ، غريبة في تصميمها .. صغيرة في أحجامها، سريعة في حركاتها ..تقترب منه،تصبح على مسافة أمتار فقط.. يلمح فيها مخلوقات تشبه البشر، وما هي ببشر؟ ..
- يتبع –
إلى اللقاء في الحلقة القادمة

المراجع

pulpit.alwatanvoice.com

التصانيف

تصنيف :أدب  تصنيف :أدب عربي   الآداب   قصة