لصياح ، الزعيق، الطرب المدوّي، الولولة، الصّخب، الزمامير، طبول العائدين من الحجّ، طلقات للفرح والأعراس، طلقات للمآتم والأحزان، طلقات للهزائم وطلقات للهزائم المتنكّرة في زيّ النّصر.. هذه صفات للفضاء العربيّ والمقهى العربيّ والحافلة العربيّة وسيارة المراهق العربيّ محدث النعمة، الذي يشفط بسيارته مزمّرا أو مطبّلا بأغاني المطربين الجدد كي يصطاد بصنّارة ذوقه "المرهف" صبيّة مّا، أو للتباهي وإثارة الحسد.

كأنّنا بلاد طرشان، كلّ شيء يعبّر عنه بالضجّة والصخب والتكرار، حتّى المفكّرون العرب الذين يظهرون في حوارات الفضائيات يكرّرون أفكارهم مرّة تلو المرّة وكأنّ أحدا لا يسمعهم أو لعلّهم يستجدون تصفيقا على أفكارهم "البديعة" أو الجريئة حتى يتأكدوا من نطقهم الجواهر. سألت مرة صديقا تقيّا عن تفسير ارتفاع صوت الخطيب الأمّيّ الغاضب من الجامع المجاور وأنا احتجّ على صوته المنكر الذي يوقظ الموتى ويجعلهم يفكّرون في الانتحار ؟ فقال: هي طريقة جدّية لمنع المصلّين من النوم أثناء الخطبة الصاخبة مطرب أعراس شعبيّ آخر أصرّ على عقد حفلة العرس في صالة مغلقة وليس في مكان مفتوح والسّبب كما صرّح : إخفاء النّشاز الصوتيّ واللحنيّ في الصّدى؟

من المعروف أنّ الضجة أحد أنواع التعذيب المعروفة وقد استخدمها الإسرائيليون أثناء لجوء الفلسطينيين إلى كنيسة القيامة لكنها هنا "حياة عادية". في المقهى الذي أتردّد إليه ينادي صاحب المقهى على النادل بصوت اسرافيليّ: عزو . يا عزو. لكن عزو ليس أطرش أو ممنوعا من السمع بسبب ضجيج النرد وبقبقة النراجيل؛ إنّه ميت يسير على قدمين.

وصف الكاتب البحرينيّ محمد جابر الأنصاري العرب بأنّهم "ظاهرة صوتية" تعبيرا عن العجز العربي الحاليّ و"إستراتيجية" الشجب والتنديد والاستنكار والتمجيد الإعلاميّ الذي جسّده التراجيديّ أحمد سعيد وورثه بإتقان كوميديّ محمد سعيد الصحّاف . من الطريف أنّ هذه الإستراتيجية الصوتية انقلبت إلى استرتيجية السلام كخيار استراتيجي أو ألف سلام وسلام ( جملة تقال في الأعراس على سبيل التحية). أنا أفضّل قلب التوصيف السابق إلى أنّ العرب "ظاهرة صمتية" فالموضوع لا يقتصر على السياسيّ والإعلاميّ، فالعربيّ يميل إلى الصّراخ بسبب الكبت والتسكيت والتخريس وغياب حرّية التّعبير وغياب الفرص وإمكانيات إثبات الذات. لكن ما سبب حبّ العربيّ للاغاني الصاخبة في كلّ الأوقات ؟ الإنسان يقول ويتكلم أمّا الحيوان فيصرخ وينبح. حتى أصحاب مقاهي الانترنت السورية يسمعون ركّابهم" أغاني تُرقص الختيار على العكّازة( أغنية شامية) ؟ هل السبب في هذه الأغاني الصاخبة يعود إلى أنّ الجسد العربيّ مقيّد بقيود الأدب والوقار، ولأنّه كسول، وغير رياضيّ، أمّا إذا رقص فهو أحد راقصين، فإمّا دبكة شعبية جماعية في عرس بإيقاعات متساوية أو رقصة فردية وقورة بالخنجر أو بالسيف) كأنما هي يوغا شرقية. الحديث الشريف يقول : المرء بأصغريه لسانه وقلبه . ولأنّ اللسان مربوط بألف قيد وقيد والقلب معنّى بهواجس لا تجد تعبيرها سوى على حيطان النسيان أو حيطان المراحيض فليس من مرء ولا مروءة.

أفقت من نومي على صوت استغاثة، كان أحد الجيران يصيح في جوّاله فيُسمع كلّ أهل الحارة: أنا خارج التغطية. لكنّ الحديث استمرّ خمس دقائق مع زوجته التي كانت داخل التغطية. أي تحت اللّحاف. من الغريب أنّ الشعوب الصناعية التي اخترعت أصخب الآلات تميل إلى الهمس؟ وتعتبر مقاطعتها أثناء الحديث عنفا وإرهابا.

العربيّ فكريّا يعاني من تراكم الشحوم الثلاثية في الأذن والكولسترول السياسيّ في القلب وازدياد حامض القهر الذي يسبب احتقانات قاتلة، وهو جسديا مربوط بسلطة الأعراف ومسجون في زنازين العيب.أمّة اقرأ لا تقرأ، أمّة اسمع لا تسمع إلا بالتهديد؛ النتيجة هي صخب بلا معنى. وزمامير للأشباح والكائنات غير المرئية؟

العربيّ يصخب ويصيح ليُثبت انّه حيّ. أمّا إذا رقص فمذبوحا من ..الطرب. مؤخرا وجدت تفسيرا لحبّ السائقين للأغاني الراقصة الشعبية التي يؤدّيها مطربو الكراجات والأعراس، والسائقون هم من أكبر المروّجين لهؤلاء المطربين، التفسير هو التالي: السائق مثل أيّ كائن إنسانيّ يحبّ الاستجابة بالرقص للألحان، ويميل إلى التخلّص من التوتّر الجنسيّ والسّياسيّ المحبوس في جسده الأسير، وهو يخجل من الرقص، والطريقة المثلى للرقص "الآلي"، هي في الاستسلام لرقص السيارة على حفر الطريق وطياته وفوالقه على أنغام (ختيار على العكازة),

واكتشفت أنّ الزمّور في بلادنا ليس لتنبيه الحيوانات الضالّة وإنّما هي للنداء على صديق ودعوته للخروج من المنزل أو للنزهة، أو للرقص على أنغام الزمور عند حدوث عطل لأجهزة التسجيل في السيارة.

نحن لسنا شعوبا خارج التغطية وإنما تحت التعذيب اليوميّ أيضا.


المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  أحداث جارية   العلوم الاجتماعية