«إصرار الذاكرة» هي عبارة عن أشهر لوحات الفنان الإسباني الكبير سلفادور دالي (1904 1989) الذي كان يعمد إلى مزج الجنون بالعبقرية والفوضى بالإبداع، وفيها تظهر عدة ساعات ذائبة في حالة غير طبيعية وسط مشهد صحراوي تتخلله مساحة ضئيلة للبحر، وجذع شجرة وجسم غريب ممدد على الأرض، فيما يتجمع النمل على إحدى الساعات، وهي واحدة من اللوحات المرتبطة بشخصية دالي غير المألوفة، والتي تصل حد اللامعقول والاضطراب النفسي كما وصفه البعض، كما أن انتماءه للمدرسة السريالية وتأثره بعالم الفيزياء ألبرت إنشتاين، والعالم النفسي سيجموند فرويد، انعكس جلياً على لوحاته وأعماله الفنية.
اللوحة التي رسمها الفنان الإسباني سنة 1931 بالزيت على القماش، والمعروضة في متحف الفن الحديث بنيويورك، والتي يُرجح أن يكون المنظر الذي يبرز فيها هو لخليج «كروز» في منطقة برشلونة في إقليم كتالونيا مسقط رأس دالي، وصفها البعض بأنها ترمز إلى «تكسير حدود الزمن» أو «تجميد الزمن»، حيث عُرف عن دالي «بحثه الحثيث عن الخلود والاستمرار خارج حدود عجلة الوقت، وهو ما يؤكد الجدل الذي كان يدور حول شخصية دالي التي كانت تجنح للجنون وربما للاضطراب النفسي، وقد تكون هذه اللوحة من أبرز الأشياء التي خلّدت ذكراه بالفعل كما كان يرغب.
لا وعي
لا شك في أن الشخص عاجز أمام الموت، وأمام الوقت أيضاً، ولعل الفنان الإسباني أوصل هذه الفكرة «دون وعي منه» كما يرى البعض، لاسيما أنه وظّف في هذه اللوحة عدة عوامل تدعم هذا الاتجاه، مثل استخدام الألوان الباهتة، خصوصاً اللون الأصفر «الخائف»، فضلاً عن الجسد الغامض الممدد على الأرض، والذي رسم دالي ساعة ذائبة فوقه، وقد رجح البعض أن يكون هذا الجسد هو لسلفادور دالي نفسه، والذي سيضمحل تدريجياً دون أدنى قدرة على مقاومة حركة دوران الزمن. أما النمل الظاهر في اللوحة، فيرمز إلى الحشرات التي ستلتهم جسد الإنسان بعد موته ودفنه.
غريب الاطوار
تنعكس قناعات وقراءات الفرد على أفعاله وسلوكه، وقد وُصف سلفادور دالي بأنه كان شخصاً مميزاً وغريب الأطوار منذ نعومة أظفاره، وأنه كان يسأل نفسه بمجرد أن يستيقظ من النوم: ماذا سيفعل سلفادور المعجزة، اليوم؟، وفيما بعد ظهر جنوح دالي إلى «اللامألوف» أو «اللاواقعي» من خلال لوحاته المتشبعة بالنَفَس السريالي، وعلى رأسها لوحة «إصرار الذاكرة».
سريالية
وفي هذه اللوحة يبدو حب دالي للبحث عما هو متغير وجديد في عالم الفن، ومن أهم العوامل التي دفعت الفنان الإسباني إلى هذا الاتجاه، تأثره الواضح بكتابات سيجموند فرويد، خصوصاً كتاب «تفسير الأحلام» الذي يتحدث فيه فرويد عن تأثير الصور اللاشعورية في حياة الإنسان وسلوكه.
ومن العوامل المهمة الأخرى في هذا السياق، انتساب دالي إلى الحركة السريالية في فرنسا، والتي وصفها بأنها «أهم اكتشاف في حياته»، ويُعرف الفن السريالي بأنه فن «اللاواقع» أو«اللاعقل» كما وصفه أندريه بريتون، الذي كان يقود الحركة السريالية في فرنسا آنذاك. وأضاف قائلاً: «نرى في الفن السريالي انهزام الوعي والمفروض والمسموح أمام القوى الداخلية في نفس كل إنسان»، وهو ما يظهر جلياً في شخصية وأعمال دالي.
الجنوح للخيال
وكما أطلق سلفادور دالي العنان لخياله وأفكاره الجامحة خلال رسم لوحة «إصرار الذاكرة»، تماماً كما فعل في باقي لوحاته وأعماله الفنية، وأسقط جملة أحاسيسه «اللاواعية» على تفاصيل هذه اللوحة من منظور شخصي بحت، ويقول النقاد إن دالي كان «ينفصل عن الوعي لكي يرسم الواقع من منظوره الشخصي، فيحرر ريشته من أي قيود ويتركها تفعل ما تشاء بلا تردد ودون توقف»، كما وصفه عدد من مؤسسي الفن السريالي بأنه «يخرج عن قواعد هذا الفن»، إلا أن الفنان الإسباني لم يكن يولي أي اهتمام للانتقادات الموجهة إليه، إلى أن تمكن من رسم لوحة «إصرار الذاكرة» التي تعتبر واحدة من أقوى لوحات الفن السريالي.
زمن نسبي
لم تتوقف تحليلات النقاد والمختصين عند هذا الحد، حيث نعت البعض لوحة «إصرار الذاكرة» بأنها تجسيد لنظرية دالي عن «النعومة» و«الصلابة» التي أسست لفكره الفني في ذلك الوقت، في حين يرى آخرون أن الساعات التي تشير إلى الوقت، والتي تبدو مرتخية وفي حالة مائعة، تشير إلى موقف نسبي من الزمن، فيما يشبه نظرية ألبرت إنشتاين النسبية، حيث كان دالي متأثراً بإنشتاين أيضاً، إلى جانب فرويد.
غموض
وتمكن سلفادور دالي أن يحيط لوحة «إصرار الذاكرة» بشيء من الغموض، ولعل تعدد وتباين التفسيرات حولها دليل على ذلك، إلا أن الإجماع قد يكون على الساعات الذائبة أو المنحنية التي تشير بلا شك إلى الزمن أو الوقت الذي يتحكم في كل شيء تقريباً في هذا الكون، ويرافق الإنسان أينما اتجه ومهما فعل، وفي الوقت ذاته كان دالي يرى أن شعور الإنسان بالوقت «نسبي» يرتبط بالعمل الذي يقوم به، وهو ما دفع بعض الخبراء إلى الاعتقاد بأن الفنان الإسباني قد «استوحى هذه اللوحة من نظرية ألبرت إنشتاين النسبية».
المراجع
alkhaleej.ae
التصانيف
لوحات سريالية الفنون لوحات فنية