استتبّت مقولة الأغراض في الشّعر العربيّ القديم، وأصبحت عند كثيرين من المسلّمات والسّمعيّات المقرّرة التي يأخذ بها الباحث على مقتضى القواعد التي وضعها القدامى، دون أن يميّز بين الغرض من حيث هو نوع نظريّ مستخلص من نظريّة العمود الشّعري، والغرض من حيث هو نوع تاريخيّ أي ثمرة نظر في القصيدة.


أمّا النّوع النّظريّ فيرجع الأغراض إلى أنماط “مثاليّة” معيّنة يكمن فيها جوهر الغرض وقوّته. ولا نماري في أنّها أقيمت قي جانب منها على شروح وقراءات تطبيقيّة، مثلما أقيمت على ما يجمع بين القصائد من تقاليد.

فمقولة الغرض لها وجهان:استقرائيّ أساسه البرهنة على العامّ من خلال الخاصّ أو على الكلّيّ من خلال الجزئيّ، واستنباطيّ يقوم على استنتاج أحكام وقضايا خاصّة بالنّوع (الغرض) وما يقتضيه ذلك من إسقاط ما لا ينضوي إلى العامّ وطرحه. ولعلّ هذا ممّا يجعل من نظريّة العمود نظريّة معياريّة برغم أنّها نظريّة في”الشّعر” وفي المتوخّى من أساليبه عند العرب، إلا أنّها تحوّلت عند النّقّاد البلاغيّين إلى مجموعة قواعد ذات وظيفة تقويميّة كان أساسها قياسيّا كما تدلّ على ذلك سائر الأبيات “المقلّدة” أو الشّواهد التي اعتمدوها في حدّ مكوّنات الصناعة وضبط القصيدة شكلا وصورة. ومن هنا اتّخذت القاعدة محكّ اختبار وانتقاد، وقياسا وعيارا ونموذجا، وانفكّت النّظريّة عن النّصّ، لتتحوّل إلى قواعد تنظيميّة تتحكّم في أشكال فنّية سابقة الوجود عليها، مستقلّة عنها.

من هذا الجانب كانت نظريّتهم في الشّعر نظريّة في نقده، وكان النّقد الذي قام عليها ذا منحى تعليميّ لا يخفى. ولكنّه كان إلى جانب ذلك نقدا فنّيا نوعيا أساسه التّمييز بين صناعة الشّعر وصناعة النّثر، وبين ما ينضوي إلى هذه من الأنواع أو الأجناس وما ينضوي إلى تلك. ومن هنا ألحقوا بالشّعر جملة من الأغراض، لم يختلفوا في عددها إلاّ يسيرا. وهي عند بعضهم: المدح والهجاء والنّسيب والرّثاء.

فالأوّل قاعدته الرّغبة، والثّاني قاعدته الغضب، والثّالث قاعدته الطّرب. ولم يذكروا قاعدة الرّثاء؛ وقد يفهم من كلام بعضهم أنّها الوفاء.

وإنّما مردّ الفرق بين هذه الأنواع إلى أنّ قاعدة المديح هي تأكيد الحال أي أنّ السّياق الزّمني الذي يجري فيه الكلام هو الحاضر. وأمّا قاعدة الهجاء فهي نفي الحال، وهو من ثم مديح معكوس، ونسق بمعنى “لا”. على حين أنّ قاعدة الرّثاء هي تأكيد الغيبة، وسياقه الزّمني الماضي الذي يحمل قيمة في ذاته ويفيد في الآن نفسه الدّوام والاستمرار(الذّكر الباقي).

واختزل آخرون الشّعر كلّه في نوعين:مدح وهجاء.ونحن أميل إلى تسويغ هذا التّصنيف ما تعلّق الأمر بنظريّة القدامى في الأغراض. ولعلّه الأرجح. فكلما تشابهت الوظائف انحصر الفارق بين الأغراض؛ فانضوت طائفة منها إلى المدح، وأخرى إلى الهجاء، على قاعدة-معيار أساسها نفسيّ (الرّغبة-الرجاء/الغضب-البغضاء)مثلما هو وظيفيّ: الحسن/النّافع أو الممتع/المفيد.

إنّه لمن السّائغ في الدّراسات الأدبيّة قديمها وحديثها، أن ينقّب القارئ عن الغرض من حيث هو نوع نظريّ أو مفهوم نوعيّ، عسى أن يدنيه من خاصّة العمل المقروء، ويوقفه على مدى قربه من نصوص أخرى تنضوي إلى ذات الغرض أو بعده عنها. إنّما ينشأ الإشكال كلّما اتّخذ القارئ هذا النّوع نموذجا أو قاعدة-معيارا للحكم والتّمييز بين النّصوص، وأوجب على الشّاعر أن يمتثلها ويحتذيها. وفي هذا إجحاف بالنّصّ لا معدى عنه، لأنّ القارئ القديم إنّما كان ينشد من المقايسة، ميزة بعينها، وهو يطابق بين النّصّ والنّوع (الغرض). وقلما عكس الأمر وبدأ بالنّصّ عسى أن يكتشف ميزته الخاصّة التي يمكن أن تختلف عن ميزة النّوع. على أنّ هذا الضّرب من المقايسة أو المطابقة كثيرا ما يصلح في إظهار الأنماط النّوعيّة وسماتها الخاصّة، حتىّ وإن تنقّص القارئ قيمتها أو ارتخص قدرها.

وهذا من شأنه أن يسوق إلى القول إنّ استعمال مقول ما باعتباره قاعدة يجري عليها الغرض، يفترض ثباتا ما، حتّى يحتفظ بصلاحيته ويحافظ على وظيفته التّقويميّة. وممّا يسوّغ هذا الاستنتاج أنّ الشّاهد الشّعريّ الذي كانوا يستذرون به، كلّما اشتكل عليهم معنى قياسيّ في الأعمّ الأغلب، يوائم”طريقة العرب” ويتوافق والقاعدة-المعيار التي وضعوها. ولا غرابة في ذلك، فالقاعدة مشتقة أساسا من هذا الشّاهد. وهي من هذا الجانب، مقول إحاليّ استخدموه في تقويم الظّاهرة الشّعريّة أكثر ممّا استخدموه في وصفها، وكانت عنصرا لا غنى عنه في صياغة نظام من التّمثّلات المعياريّة التّقويميّة، هو ما اصطلحوا عليه بـ”عمود الشّعر” أو “طريقة العرب”.

وفي حيّز هذا النّظام، لم يحدّوا أغراض الشّعر فحسب، وإنّما طرائق تأتّيها أيضا، على أساس اتّفاق ضمنيّ بينهم على ما هو ليس بشعر، وعلى ما ينبغي قوله في الغرض وما لا ينبغي قوله.

إنّ في عناية القدامى بفنون الطّرق الشّعريّة أو الأساليب التي ينبغي توخّيها في تعاطي الغرض، ما يدلّ على أن للقاعدة-المعيار بعدا فنّيا، وهي، بهذا المعنى قاعدة فنّية. ومع ذلك فهي موضوعيّة غير ذاتيّة؛ لأنّ ما تقرّره في مستوى الأداء أو كيفيّة القول، إن هو إلاّ أسلوب عامّ لا طابع له. وغنيّ عن الذّكر أنّ القصائد المنضوية إلى ذات الغرض لا تتوخّى أسلوبا دون سواه، ولا هي تتّبع نموذجا جماليّا واحدا.

فإذا كانت الأغراض ثابتة فان أشكالها متغيّرة لا شكّ. وطالما اعتبرنا أنّ مدار الخطاب إنّما هو على ذات وعلى خبرتها باللغة وبالعالم، أمكن أن نتوقّع تبدّلات الشّكل والأسلوب وأن نتقبّل حتّى أكثرها غرابة وشذوذا، بحيث نرى القيمة الجماليّة في المتغيّر من الأشكال، أكثر ممّا نراها في نموذج يُحتذى أو قاعدة-معيار يُمتثل بها. وهذا لا يعني أنّ القاعدة شأن نقديّ ليس إلاّ أو أنّ القصيدة طليقة من أيّة قاعدة أو هي تسوح حيث أرادت وأينما شاء لها سبيلها المرسوم.

ولعلّ في هذه الافتراضات التي نفترضها على العلاقة بين القاعدة والقصيدة ما يبيّن أنّها علاقة شدّ وجذب، وأنّ القصيدة ليست بالضّرورة حصيلة قاعدة. فثمّة ” درجات من المقبوليّة ” تختلف باختلاف الموقف الذي يتّخذه الشّاعر من القاعدة. فقصائد أبي تمّام والمتنبّي كلّها تنضوي إلى الأغراض المتعارفة عند القدامى؛ والغرض إنّما ينهض على قاعدة أو مجموع قواعد، قد يلتزمها الشّاعر وقد لا يلتزمها. بل ربّما حافظ عليها وخرقها في ذات الآن أو استبدلها بأخرى؛ لأنّ ثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها.
أ- إنّ وجود القاعدة لا يترتّب عليه ضرورة حدوث مطابق لها. والنّصّ المطابق للقاعدة إنّما هو جائز أو محتمل.
ب- يفترض في الشّاعر أن يعرف القاعدة التي يلتزمها أو يخرقها ويخالفها، ما دامت القصيدة محكومة بقصد أو مشتملة على غرض.
ج- للشّاعر إمكان أن يتّبع القاعدة أو ألاّ يتّبعها.
د- ما نستنتجه من”ب”و”ج” أنّ ما يعدّ”خطأ” أو “مخالفة”أو “تقصيرا” من الشّاعر، إن هو إلاّ حرف قاعدة أو حيد عنها.
هـ- إذن ليس ثمّة خطأ أو مخالفة أو تقصير من دون قاعدة. وكذا العكس بالعكس.

أهمّ ما نخلص إليه من هذه الافتراضات أنّه من الصّعوبة بمكان أن نرى في معياريّة القاعدة أيّ شكل من أشكال السّببيّة. والرّكون إلى القاعدة في المدوّّنة النّقديّة إنّما كانت الغاية منه ـ على ما نرجّح ـ تسويغ معنى أو الاعتراض على معنى أكثر ممّا هو بحث عن تفسير سببيّ. ولعلّ في هذا ما يفسّر التّمييز الصّارم بين الأغراض في نظريّة العمود؛ حفاظا منهم على”نقاء الغرض” باعتباره نوعا نظريّا ثابتا لا ينبغي أن يمتزج بغيره. على حين كان شاعر مثل أبي تمّام أو المتنبّي يسهم في هذا التّقليد إمّا بتحقيق الاحتمالات الكامنة فيه أي تلك التي لم يدركها أسلافه؛ كأن يعيد تجميع التّقاليد الأشدّ عراقة، ويفتتح فيها وبها سبيلا غير مطروقة، أو حتّى بالانقطاع عن التّقليد نفسه. ومن هذا المنطلق يمكن أن ننظر في غرض مثل المدح عند المتنبّي من حيث هو نوع تاريخيّ متحوّل له خصائصه،أساسه الإعلاء من سلطة الذّات، أو مغامرة الذّات اللغويّة.

وعليه، قد ترجع الحفاوة بالمتنبّي إلى سببين على الأقلّ:
ـ أوّلها انتقاض صورة الشّاعر، بعد أن زحزح القرآن الشّعر عن مكانته، وانتقاله من مرتبة “السّاحر” إلى مرتبة “الصّانع”، مما ترتّبت عنه نتائج خطيرة شملت ماهية الشعر نفسه وعلاقته بقائله ومعايير تلقّيه وتقويمه. وهذا إنّما يتمثّله بجلاء كبير شعر أبي تمّام. وقد أوضحته في رسالتي الجامعيّة عنه “صناعة الشّعر عند ابي تمّام ومكوّناتها: في النصّ وفي قراءة القدامى” (دكتورا دولة-الجامعة التّونسيّة). ومن الصّعوبة بمكان أن نقرأ المتنبّي، دون أن نستأنس بأبي تمّام.
-وثانيهما ضياع الشّعر في العصور المتأخّرة، وقد هان على الناس “لعجمة ألسنتهم واختلال طباعهم، فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه المحرّكة جملة” بعبارة حازم القرطاجنّي. وعلى ضوء هذين السّببين، ندرك لم وسم المعرّي شرحه لشعر المتنبّي بـ”معجز أحمد”.وهي تورية لطيفة منه، تبيّن أنّ المتنبّي (واسمه أحمد، وهو اسم النّبي أيضا) هو الذي أعاد للشّعر مكانته، وأنّ هناك معجزا شعريّا يمكن أن يجاذب المعجز الدّيني مكانته. أمّا إدانة المتنبّي، على أساس أنّه يمدح المتنفّذين من ذوي السّلطان، فليس أكثر من موقف إيديولوجيّ، لا ينهض له أيّ سند من نظريّة الشّعر عند العرب القدماء، ولا حتّى عند المعاصرين. بل هو موقف أخلاقيّ متهافت. ومديح المتنبّي إنّما هو مديح اللغة قبل أيّ شيء آخر. وأعني اللغة التي يلعب بها المتنبّي مثلما تلعب به، ويقول بها مثلما تقول به.

و لكنّ هذا لا يتسنى إلاّ بوصف الخطاب والانطلاق من النّصّ بحثا فيه عن الصّيغة التي تنتظم الغرض، ووقوفا على القانون الذي يشتمله. وأساس ذلك إنّما هو العنصر السّائد المتسلّط على القصيدة، أي ذاك الذي يحكم بقية العناصر ويتصرّف فيها؛ ونعني به ها هنا قانون المشابهة وقانون المجاورة. وعلى ضوئه يمكن أن نصنّف الأغراض إلى خطابين:
استعاريّ وكنائيّ.

المديح وما ينضوي إليه من أغراض مثل الرثاء والفخر والغزل، فنّ استعاريّ بالأساس. فالمدحية تقدّم النّموذج الإنسانيّ الفائق في عالم المثل أي ذاك الذي يخرق القوانين الطّبيعيّة أو الشّخصيّة الملحميّة التي تضفي على البطولة معناها، مثلما يقدّم صورة الشّاعر المتماهي بخطابه “المعجز”. وهذه مزيّة المتنبّي مثلما هي مزيّة أبي تمّام قبله.

أمّا الهجاء فيقدّم مساخر الممسوخين في عالم اضطربت قيمه ومثله. ولذلك نتوقّّع فيه المضحك والغريب وكل ما هو متنافر في تجسيد شخصيّة المهجوّ وأن ينزع الخطاب فيه إلى الكلام الشّفهيّ (النّثريّ) والطّرفة الشائعة، واستدعاء ” البذاءة” و” المبتذل” و”السّوقيّ”. والهجاء يقدّم عالما مشوّها “هجينا” فلا غرابة أن”يتحذلق” الشّاعر في لغته ويتظرّف في كلامه، وأن تكون القصيدة أمسّ بالنثر والخطبة منها بالشّعر على نحو ما تعارفه القدامى. على أنه من الرّجاحة بمكان أن نلاحظ أنّ إحكام التّمييز بين الهجاء والسّخرية في هذا الشّعر الذي نحن به، ليس بالأمر السّهل؛ فالمتنبّي مثل أبي تمّام، يجمع بينهما في سياق واحد: هجاء أو هجوم على المهجوّ دون واسطة، سرعان ما ينتهي سخرية لاذعة، كلّما عثر المتكلّم في ذاته على ما يسخر منه عند الآخر، أو اكتشف وشائج القربى بينه وبين موضوعه. وأقدّر أنّ في هجاء المتنبّي لكافور هجاء لنفسه أيضا.

فلعلّ تصوّرا كهذا الذي نقترحه أن يجعل طريقتنا في قراءة الغرض أغنى وأحكم نظاما، وأن يساعدنا على إدراك أهمّ الصّلات والتّعارضات بين الأغراض، وفهم الكثير من أسباب التّفاوت تفاوت إنشائيّة الخطاب عند الشّاعر.

على أنّنا نشير إلى أنّ في هذا الشّعر أخلاطا أشدّ تعقيدا من أن ندرجها في رفّ بعينه، فثمّة قصائد غير قليلة يصعب تصنيفها حسب النّظام المقترح تصنيفا دقيقا. من ذلك أنّ الهجاء في بعض القصائد يتمثّل عالما أرفع من المهجوّ وينحو نحو المديح أو الفخر.

وقد تتمثّل الغزليّة (وهي عند المتنبّي نسيب يرد في خدمة غرض) شخصيّة أرفع من عالمها، برغم أنّ الصّورة التي تطغى عليها في هذا الشّعر، إنّما هي صورة الذّات التي تعاني من وطأة عالم ثقيل أعمى لا طاقة للعاشق على تحمّله.

فلعلّ هذه الاستثناءات أن تعزّز تصوّرنا، وتؤكّد رأينا في أنّ الأغراض ليست أنواعا أو أنماطا ثابتة.

وربما اشتكل علينا أمر الوصف: أهو غرض قائم بذاته، كما يذهب إلى ذلك القدامى أم هو أسلوب، على نحو ما نجد عند المعاصرين؟
فابن رشيق يرى أنّ الشّعر ـ إلاّ أقلّه ـ راجع إلى الوصف. وهو عنده مناسب للتّشبيه، إلاّ أنّ الوصف إخبار عن حقيقة الشّيء، لأنّ أصله الكشف والإظهار، وأبلغه ما قلب السّمع بصرا. فيما التّشبيه مجاز وتمثيل.

أمّا نحن فنرجّح أنّه يمكن أن يكون هذا وذاك في ذات الآن. فهو أسلوب كلّما انضوى إلى غرض بعينه. وهو غرض قائم بذاته كلّما اتّسع لقصيدة بأكملها. وثمّة ضروب من الوصف لا تتقيّد بأيّ غرض من الأغراض المتعارفة، وبعضها ينزع إلى اللّغز والطّرفة أو الأحجية. ويمكن اعتبارها نوعا من الرّسم. وليس بالمستغرب أن نلحق الرّسم بالشّعر (الشّعرية) والعين بالصّوت؛ فالوصف القائم بذاته تصوير ومثل وموضوع. والشّعر والرّسم كلاهما يتحدّران من أرومة واحدة هي الكتابة (الخطّ). ويمكن القول أنّهما نوعان ينضويان إلى جنس واحد، ويومئان إلى ارتباط متين بين الكلمة والعين.


المراجع

alawan.org

التصانيف

فنون  أدب  أدب عربي   العلوم الاجتماعية  مجتمع