لدى كل انتخابات رئاسية فرنسية، يُطرح السؤال إياه: أي سياسة إفريقية سيتوخى رئيس الدولة الجديد؟ إذ أن إفريقيا جنوب الصحراء تحتل، منذ نهاية الحقبة الاستعمارية، مكانة متميزة في الدبلوماسية الفرنسية. هناك أواصر "خاصة" تهيكل العلاقات بين القوة المستعمِرة السابقة وما كان مستعمراتها، حتى أن وثوق الروابط بين القادة الأفارقة الفرنكوفونيين ونظرائهم الفرنسيين أدت إلى ابتداع مصطلح للتعبير عن فرادتها. ففي الستينات من القرن الماضي، قام أول رئيس لجمهورية ساحل العاج، فيلكس هوفوات يوانيي، بنحت مصطلح "فرنسا-إفريقيا"، الذي سرعان ما تحول إلى مرادف للسياسات الخفية، القائمة على الشبكات والتواطؤات المريبة و"الصداقات" الشخصية والمساندة التامة من فرنسا للأنظمة الدكتاتورية في مستعمراتها السابقة، والتي تدين لها بالولاء الكامل. وبفضل ذلك "الجيش" من الدول المُستتبَعة، تمكنت فرنسا من إيهام النفس، طيلة عقود، بأنها لا تزال قوة كبرى.
هل كان الرئيس جاك شيراك آخر زعيم فرنسي لـ"فرنسا-إفريقيا"؟ كان على أية حال أحد دعاماتها منذ بدايات مساره السياسي المديد. وهو قد حاول، طوال فترتيه الرئاسيتين، إنقاذ ذلك "الاستثناء" الفرنسي من عاديات الزمن ومن مساعي حكومة ليونيل جوسبان (0997-2002) إلى تجديده. فهل سيكون نيكولا ساركوزي وريثه أم أنه سيبدي، في هذا الصدد أيضا، رغبة في تلك القطيعة التي جعلها محور خطابه؟
يتوقع بعض العارفين أن الرئيس الجديد لن يجدد في هذا المجال. أولا لأن "فرنسا-إفريقيا" كانت أحد القطاعات الأثيرة لتدخلات عرابه السياسي، شارل باسكوا. فقد كان لهذا الأخير فيها شبكات متينة. وبفضلها، تمكن السيد ساركوزي، على مر الزمن، من أن يقيم علاقات وثيقة مع "الديناصورات"، على ما تُسمى تلك الحفنة من الرؤساء الأفارقة المنفردين بالسلطة منذ عقود، وحراس تلك العلاقة الامتيازية، القائمة على التضامن الملموس إن دعت الحاجة. الرئيس الغابوني عمر بانغو عبر علنا عن امتنانه لتلقيه مكالمة هاتفية من الرئيس الجديد للدولة الفرنسية بعد ساعات قليلة من إعلان نتائج الاقتراع. لماذا، يهمس البعض في الدوائر العليمة، يقدم ساركوزي على القطيعة مع هذه التقاليد، حارما نفسه من أداة برهنت على فاعليتها في أكثر مناسبة؟
فهل أن "فرنسا-إفريقيا" تلك التي يمجها كل دعاة التحرر الحقيقي للقارة أمر يتعذر تجاوزه؟
الأمور ليست بهذه البساطة. إن أن الرئيس الجديد سيجد نفسه مضطرا إلى أخذ ما طرأ على موازين القوة من تحولات في القارة بعين الاعتبار. سيساعده على ذلك، دون شك، تجدد الأجيال في كل من فرنسا وإفريقيا. فالأجيال التي عاشت الحقبة الاستعمارية اختفت من المسرح السياسي، أو انقرضت. الوزارات الباريسية أضحت تعج برجال ونساء في أربعينياتهم، منجذبين نحو مناطق الجنوب الأكثر ازدهارا، حيث تتعاظم قوى الغد. وفي إفريقيا جنوب الصحراء نفسها، وفي ما عدا بعض الاستثناءات الفارقة شأن السنغال، أضحت الطبقة السياسية أكثر شبابا، مجددة في الآن نفسه علاقاتها مع القوى الكبرى. ومن شأن هذه التركيبة الجيلية الجديدة من الجانبين، أن تضعف، دون شك، الحس "الفرنسي-الإفريقي" للنخب.
إذ أن هناك تطورا مستجدا ما انفك يتأكد منذ بضع سنوات. وأضحى من المتعذر اليوم حصر السياسة الإفريقية في مجرد علاقة امتيازية مع الإمبراطورية السابقة. فإفريقيا الفرنكوفونية ليست لا الأكثر ثراء ولا الأكثر قوة ولا الأكثر ديناميكية بين مناطق القارة. بل أن مراكز الثقل الاقتصادية والاستراتيجية ما انفكت تنتقل، وكذلك المصالح الفرنسية. من أنغولا إلى كينيا أو نيجريا وجنوب إفريقيا بطبيعة الحال، على سبيل الإشارة إلى بعض البلدان التي لا يمكن تجاهلها، قامت الدبلوماسية الفرنسية منذ فترة، بتوسيع مجال فعلها. ويمكننا أن توقع من نيكولا ساركوزي أن يتشبث بهذه التوجهات الجديدة.
وعلى نحو أعم، يتعين على كل سياسة فرنسا الإفريقية أن تأخذ في اعتبارها الفاعلين الجدد. وأولهم، الذي أضحى بالنسبة إلى القوى القديمة منافسا مخيفا، الصين. فقد ضاعفت هذه الأخيرة حضورها في القارة عشر مرات، خلال سنوات قليلة. من استغلال المعادن إلى المشتريات النفطية وما تتطلبه من تحالفات، تسللت الصين إلى مناطق النفوذ التقليدية الأوروبية والأميركية. وهناك بلدان جنوبية أخرى تبدي أيضا فاعلية كبيرة في القارة، شأن الهند وكوريا الجنوبية وهما قوتان اقتصاديتان وتجاريتان جديدتان لا تريدان البقاء بمنأى عن الإلدورادو الإفريقي. وهناك بطبيعة الحال إفريقيا الجنوبية، وهي القوة القارية الوحيدة، والتي تضطلع اليوم بدور مركزي على كل الأصعدة. وسيكون على باريس، مثلها في ذلك مثل العواصم الغربية الأخرى، أن تأخذ هؤلاء الوافدين الجدد بعين الاعتبار.
وأخيرا، ما انفك حقل العلاقات الثنائية يضيق على مر السنين، مع تزايد حجم المساعدة الأوروبية. صحيح أن باريس لا تزال تتمتع بهامش حركة واسع، وتقدم القسط الأكبر من مساعداتها عبر قنواتها الخاصة، إلا أن تغيرا قد حصل. إذ أن السياسة الإفريقية لأوروبا، أو بالأحرى لبروكسيل، قد حدت من تلك القنوات.
يمكننا الاعتقاد، على ضوء هذه التحولات، أنه ليس من خيار أمام فرنسا سوى تغيير سياستها، وذلك صحيح جزئيا. لكن هناك عادات ترسخت، كما أن المصالح المتبادلة التي انبنت عليها "فرنسا-إفريقيا"، أبعد عن أن تكون قد اختفت، بل أن بعضها ازداد وثوقا. والعلاقات الوثيقة التي يقيمها نيكولا ساركوزي مع عدد من أصحاب الشركات الفرنسية الكبرى، تدفع باتجاه تمتين تلك الشبكات. لقد قضى ساركوزي أيامه الأولى كرئيس على متن يخت يملكه فنسان بولوريه، والحال أن قسطا كبيرا من أنشطة مجموعة بولوريه يتركز في إفريقيا الفرانكوفونية، في قطاع الموانئ تحديدا. أما مجموعة بويغ، التي يوجد على رأسها شخص آخر تربطه بالرئيس الفرنسي علاقة حميمة، فهي تسيطر، من خلال فروعها، على جزء كبير من توزيع المياه في المدن الإفريقية. ولا نشك في أن الرئيس الجديد سيكون حريصا على دعم مصالح أصدقائه.
أما حضور العملاق النفطي "توتال" في الكثير من البلدان الإفريقية فهو أيضا من العناصر التي يتوجب أخذها بعين الاعتبار في كل سياسة إفريقية لفرنسا. سلفها، شركة "إلف"، كان طيلة عقود إحدى دعامات "فرنسا-إفريقيا": تمويل الانقلابات والحروب الأهلية، رشوة القادة الذين ما كانوا يرغبون إلا في ذلك، ولا سبيل إلى إحصاء كل ما ارتكبته في تلك "الحديقة الخلفية" لباريس. صحيح أن المناهج تغيرت، ولكن التنافس على النفط الإفريقي في أيامنا بلغ من الحدة بحيث ربما سوغ العودة إلى تلك والممارسات القديمة للحفاظ على مصالح المتروبول.
هكذا، وأسوة بسابقيه، سيستمر ساركوزي في حماية سدنة المعبد القديم. وفي عهده، لن تساور السادة بونغو في الغابون وسيسو نغسو في كونغو برازافيل وبول بييا في الكاميرون بليز كومباوري في بوركينا، مخاوف على كراسيهم وحساباتهم المصرفية. ولنراهن بأن نتائج انتخابات السادس من مايو قد أثلجت صدورهم. وقد سارعوا جميعا إلى الإسراف في تهنئة نظيرهم الفرنسي الجديد، مبدين في ذلك حرارة تتباين تماما مع توجسات رأيهم العام الذي تتدنى لديه شعبية ساركوزي إلى الدرك الأسفل. فهو في نظر الكثير من الأفارقة، في المقام الأول وزير الداخلية الذي جعل من طرد بني جلدتهم أولوية، وكرر مرارا عزمه على إغلاق حدود بلاده في وجوههم.
غير أنه، وعدا عن كون الظرف الدولي والقارّي الجديد يتطلب تطوير السياسة الفرنسية، لرئيس الدولة الجديد أولوياته التي يريد المسارعة إلى وضعها موضع التنفيذ، وفي المقام الأول منها مسألة الهجرة. فنحن نعلم أنه قد جعل من التحكم في دفق الهجرة عنصرا أساسيا في برنامجه. وقد مكنه تشدده في هذا المجال من أن يجتذب أصوات أقصى اليمين. وفي هذا الصدد، يُعتبر إنشاء وزارة للهجرة وللهوية الوطنية والتنمية المشتركة غنيّا بالدلالات. من ناحية التشدد، ستقوم فرنسا بطرد غير المرغوب فيهم، ومن ناحية الشفقة، ستقوم بمساعدة الفقراء. لم ينس السيد ساركوزي، مساء السادس من مايو، التنويه بمكافحة الفقر في إفريقيا كإحدى أولوياته. وهو ما نأخذ به علما. ولكن المساعدة، في خطابه، ليس سوى الأداة لإبقاء الأفارقة في بلدانهم، أقلهم تأهيلا على أية حال. أما حملة الشهادات الذين تحتاجهم فرنسا، فسيحظون باستقبال جيد، حتى وإن ساهم منفاهم في نسف ما يُبذل من جهود، قليلة أصلا، لتشكيل بعض الدول.
الطاقة العارمة التي يتمتع بها الرئيس الجديد، ستُستخدم أساسا في الحد من دفق الهجرة. نعلم أن الدول الغربية باتت تلجأ في ذلك إلى التخفف من عملية التحكم تلك: على الأفارقة أنفسهم أن يتولوا وقف المرشحين للهجرة، مقابل شيء من المال. بعض الدول الإفريقية امتنع عن ذلك، والبعض الآخر بدأ يقبل بهذه الوظيفة. وسيتوقف مدى نجاح سياسة ساركوزي في هذا المجال على درجة تعاون الشركاء الأفارقة. هامش المناورة لدى هؤلاء حيال أوروبا ليس كبيرا، وبإمكاننا توقع عنف متزايد لصد آلاف المرشحين الأفارقة للنزوح. أما طالبو اللجوء، فسينتظرون أكثر فأكثر عند أبواب فرنسا، التي ما انفكت منذ سنوات تضيّق مجال حق تعترف به اتفاقية جينيف. وهو ما لا يعبأ به السيد ساركوزي.
وفي الأخير، ستنتظم السياسة الإفريقية للرئيس الحالي حول محورين: بعد أمني متزايد سيتخذ من التحكم في الهجرة حقله الاميتازي، ودعم المصالح الفرنسية الخاصة، نظرا لقرب السيد ساركوزي من أوساط أصحاب الشركات الكبرى.
هل يمثل هذا سياسة جديدة؟ ليس تماما. خصوصا وأن زيادة المساعدات الفرنسية ليست في الوارد. قدر من التجديد الاضطراي، وقدر من الثبات، وبعض الترتيبات الجغرافية والإستراتيجية الطفيفة… هكذا يبدأ عهد ساركوزي، الذي سيكون على الأرجح، عهد القطيعة الزائفة والتجديدات التي لا تقل زيفا.
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
سياسة