ليس ثمة رغبة عند رشيد بالعودة إلى البيت ، لا يريد لرأسه وجعا أكثر ممّا هو فيه ، أذناه ترفضان سماع الاسطوانة المشروخة التي ترددّها زوجته كلما دخل عليها . في نفسه تعتمل أفكار متناقضة ، وهواجس لا يستطيع توجيه مساراتها كما يريد . لقد سعى في مناكبها ، وطرق أبوابها ، فلم يحصل إلا على الفتات المتناثر ، يقضي ليله في فرن الصمون بأجر لا يسدّ حاجته ، ولا يتناسب وطموح زوجته التي تمطره كلّ يوم بسيل من الطلبات المشروعة . انتهى به الأمر أخيرا إلى العمل في ورشة لتقطيع الفافون ، ينسلخ الليل وهـو منهمك في عجن الطحين ، ويـموت النهار بيـن يديه ، وهو مشغـول في تـقطيع الفافـون ، وإذا ما توفرت لديه فرصة قصيرة لا يخلد إلى الراحة ، بل يسرع إلى القراءة بلهفة وشغف كبيرين . كان دمث الأخلاق ، شديد الحياء ، سهل الانقياد ، وعندما تحاصره الهموم ، يثور بصمت ، يعاني بصمت>

يتمزق دون أن يشعر به أحد ، رغم التأثر الواضح على ملامحه، وإذا ما بلغت مشاعره ذروتها في الهيجان ، يتهيأ لملاقاة حالة ولادة عسيرة ، تصحبها آلام نفسية حادة ، وإرهاصات قاسية ، فيضع حمله في قصيدة شعرية ، قد تولد ميتة ، وقد تخرج منغولية المعنى والمبنى ، وقد تكون ولادة موفقة ، وفي كل الأحوال يشعر أنه تخلص من عبء ثقيل . كان موزعّا بقسوة بين الركض وراء لقمة العيش وكتابة الشعر ، وأمام هذه المعادلة الغير متوازنة ، استمر رشيد يعيش حياته بين فشل ونجاح ، معللا ذلك إن الحياة معركة شرسة لابدّ أن يخوضها بشجاعة . دفع الباب الخشبي بيسر ، واجتاز الممر الترابي القصير الذي يفضي إلى غرفته ، فاطمة مشغولة في إعداد الطعام ، وطفلاه يلعبان بالقرب من أمه الجالسة على سجادة قديمة ، عبث بها الزمن فألغى نعومتها وألوانها . وصله صوت زوجته من المطبخ :

ـــــ طرق بابنا هذا اليوم رجل ، وسلمني ورقة ، وهو يقول : ( عندما يأتي رشيد ، أبلغيه أنّ صديقك سلمان يخصك السلام ) . انتبه رشيد عندما طرق سمعه اسم سلمان ، فأسرع في القول : ــــ وأين هي الورقة ؟ لم يسمع إجابة من أحد ، خرج من غرفته ، وأعاد السؤال بلهفة : ــــ إنها في غرفة نومك . ( أجابت زوجته بلا اهتمام ) أسرع إلى غرفة نومه ، وجدها على الفراش ، كانت داخل مظروف ، كتب عليه بخط أنيق وواضح ــ الشاعر رشيد عبد الحق علوان ــ . لم يجد صعوبة في فتحه ، أخرج من داخله ورقة صغيرة ، كانت دعوة موجهة إليه لحضور إحدى المهرجانات الشعرية ، شعر بالزهو عندما وقع نظره على كلمة ــ شاعر ــ ، لقد أصبح شاعرا معروفا ، تحقق حلمه الذي راوده منذ زمن بعيد ، الدعوة له بالتأكيد ، ولا توجّه مثل هذه الدعوات إلا لشاعر معروف .

في تمام الساعة الخامسة عصرا ، دخل رشيد القاعة ، استقبله صديقه ( سليمان ) وأجلسه على أحد الكراسي وسط القاعة ، جلس مبهورا ، التفتَ إلى الخلف ، كانت القاعة لا تشبه فرن الصمون ، ولا ورشة الفافون ، جدرانها مزيّنة بلوحات زيتية جميلة ، ومن سقفها تدّلت نجف صدفية مذهلة ، والكراسي زرعت على أرضها النظيفة بإتقان ، وأمامه منصة الإلقاء المصنوعة من خشب الصاج المدهون بعناية ، والقاعة برمتها غارقة في بحر من الضوء الوهاج . أربعُ قصائد ألقيتْ ، تحول فيها رشيد إلى أذن صاغية تتلقفُ ما يقال ، مستـنفرا قدراته النقدية ، بعدها جاء دور شاعر جديد ، كان أكثر من سبـقوه أناقة ووسامة ، لم ينتـبه إلى اسمه ، الأسماء لا تعنيه كثيرا ، وقف الشاعر هنيهة ، وبصوت هادى وناعم ، يشبه إلى حد كبير ، صوت صبية مدللة ، بدأ ينشد المقطع الأول من قصيدته : ( الجلسة تفتحُ بعد قليل ، والسجّان يداعبُ سكـّينَ الذبح ، وعلى جبهةِ قاضي العدلِ ، وشمٌ يرمزُ للعدلِ وللحكمة ، وعلى جدرانِ القاعةِ ، انتشَرَتْ آياتٌ تدعو للرحمة ، ودعاءٌ حول الغفران ، وأنا مرميٌ خلفَ القضبان ، مختومٌ بالقهر ومشحونٌ بالأحزان ) .

رشيد يرتعش ، قدماه يتحركان بعنف ، يداه تتخبطان بين فخذيه بعصبية ، شفتاه تتمتمان بشرود ، بدأ يضغط على مشاعره ، للسيطرة على إحساسه المتوتر : ( ربما تكون تواتر خواطر لا غير ، فلماذا كلّ هذا الانفعال ؟ ) . انتبه إلى الشاعر الواقف أمامه ، فاته الكثير ممّا قاله ، وراح يصغي إليه بانتباه . تصفيق حاد ، وأيادي تلوّح بالإعجاب ، وأصوات مرتفعة تطلب الإعادة ، ووميض الفلاشات يتقافزُ على وجه الشاعر الدعي ، وقد أخذته موجة من الزهو والكبرياء . رشيد يهاجمه الانفعال مرة أخرى ، هذه القصيدة كتبها بعد منتصف الليل ، كان جالسا بين أكياس الطحين في فرن الصمون ، كتبَها في أعسر ولادة ، كانت قصيدة مطوّلة من عشر مقاطع ، وضعَ لها مقدمة وأسماها ( المحكمة ).

استمرّ في كتابتها ثلاث ليالي ، كان يغلي في كتابتها ، حاصره الطلق فجأة ، أسرع َنحو سجل ديون الفرن ، اغتصبَ عدة أوراق منه ، وبدأ يكتبُ بلا قابلة مأذونة ، أو صالات عمليات ، كانت الولادة عسيرة ، تهدأ نهارا وتثور بعد منتصف الليل . التصفيقُ لا زال على أشدّه ، نهض من مكانه ، صفّق مع المشاركين بقوّة ، قصيدته لاقتْ نجاحا كبيرا رغم تعرضها للـتشويه ، لقد عبـث هذا الشرير ببنائها ، وأفسد الكثير من معانيها ، ألقى مقاطع وألغى أخرى ، والقصيدة جسد واحد ، وروح واحدة ، أفقدَها هذا الحيوان، عمق المعنى ، وقوّة البناء ، وروعة التواصل . الشاعر ( الكذبة ) يرفعُ قدحَ الماء ، يأخذ منه جرعة صغيرة ، ويعاودُ الإنشاد ، موجة أخرى من التصفيق الحاد ، ورشيد جالس في مكانه ، وبوادر ثورة عارمة بدأت باجتياحه ، رياح ثورته بدأت تعصفُ به ، أفقدته اتزانه ، لم يعـد يحتمل كلّ هذا العبث ، نهض من جديد ، صفقّ بشدة ، أرادَ أن يثير انتباه الحاضرين ، التقتْ عيناه بعيني صديقه ( سليمان ) .

غادرَ مكانه وأسرعَ إليه ، كانت الدهشة تعقد لسان ( سلمان ) . رمى رشيد سؤاله بوجه صديقه غاضبا : ــــ من يكون هذا الشاعر ؟ بوغتَ سلمان بهذا الموقف ، ردّ على السؤال بصوت متضرع ، وقد لاحت في عينيه سحابة من الارتياب : ـــــ انه من رجال الأعمال ، وقدّم نفسه على انه شاعر معروف ومقتدر . ــــ انه سارق وليس شاعرا ، لقد سرق قصيدتي ، وما ينشده الآن ما هو إلا شعري . ( قالها بصوت حزين وحاقد ) . لم يدرْ في خلد رشيد ، كيف وصلت القصيدة إلى هذا المنتحل ؟ رجعَ بذاكرته إلى الخلف ، تذكر أحد الجالسين في المقهى عندما طلب منه بعض قصائده لنشرها ، وكيف أعطاه هذه القصيدة بالذات ؟ رجل الأعمال مستمر في إلقاء القصيدة ، ورشيد يردد معه ما يقـول ، و( سلمان ) يقف أمامه ، فاغر الفم ، مسبلا أجفانه ، ودون أن يشعر سقطت دمعة ، تزامنـت مع نهاية القصيدة ، التي اختتمت بالثناء الكبير . الدمعة كانت حافزا جعل رشيد يسرع كلمح البصر إلى المنصة ، لم يعط مجالا لأحد ، وبدون مقدمات ، وبلا تمهيد ، انتصب أمام الميكرفون ، كانت القاعة تضجّ بالمشاركين ، وبصوت جهوري رصين ، تحدث رشيد : لقد انتحل هذا الدعي قصيدتي ، وتعامل معها بغباء ورعونة ، فأساءَ إلى مضامينها ، ودمّر بناءها ، وشوّه صورها ، لهذا وجدتُ نفسي مضطرا إلى كشف الحقيقة ، وأنا أواجه اضطرارا آخر إلى قراءة القصيدة على مسامعكم ، لإزالة آثار التشويه الذي أصابها .

بدأ رشيد يقرأ قصيدته ، رغم ما أحدث ظهوره من فوضى ولغط ، ممّا جعل منتحلها يخرج هاربا من القاعة ، وانقسمَ الجميع بين مؤيد ومعارض ، وتحول اللغط إلى احتجاج وصراخ ، إلا أنّ رشيد استمر بإلقاء قصيدته باندفاع ، واستطاع بمهارته أن يخرس الجميع ويحيلهم إلى كتلة من التنصت والانتباه ، ثمّ ترادفت موجات التصفيق المدوي ، والهتاف المتصاعد إلى الإعادة ، ومع شدّة التصفيق والإعجاب ، ومع وصول أجواء الحماس إلى ذروته ، غادر رشيد القاعة مسرعا ، ليلتحق بعمله في فرن الصمون الذي تأخر عنه كثيرا ، وسط صرخات المديح والإعجاب ودوي التصفيق .


المراجع

الموسوعة الرقمية العربية

التصانيف

فنون  أدب   العلوم الاجتماعية