تكسّرت النصال على النصال في الحديث عن الرقابة في سورية… ولطالما كان الحديث يطول ويتشعب ويتفرع، خصوصاً أن أشكال الرقابة المختلفة راحت تتراكم على مدار عقود تحت ظل السلطة. مما أدى إلى زجّ الإبداع وسط ميدان حرب لعينة، أضحى مطالباً فيها بحمل السلاح وخوض المعارك، فيما من المفترض أن يكون آخر المعنيين بذلك.
من الرقابة المؤسساتية المهيمنة، إلى الرقابة الاجتماعية والدينية غير المقوننة، إلى الرقابة السياسية وتبعاتها، إلى الرقابة الذاتية، التي راحت تتمدد داخل المبدعين كورم سرطاني، إلى رقابة المبدع للمبدع استكمالاً لحالة الموات الإبداعي.
تحت ضغط كل هذه الرقابات، وكونها أشبه بدب نائم لا نعرف متى يستيقظ، فالعديد من المبدعين يربّون، من باب التقية، رقيبهم الداخلي، خشية استيقاظ ذاك الدب على حين غرّة، لينشب مخالبه الرقابية فيهم، على الرغم من أن الرقابة راحت تعاني، في زمن الإنترنت والفضائيات والمعلومة التي تصل كل بيت، من مرض الغباء المستحكم.
وأود أن أضيف، نهاية، أن الرقابة الأعتى باعتقادي، والأكثر قدرة على الإيذاء، هي رقابة المبدع للمبدع. وقد تتجلى بغياب النقاد الحقيقيين، الذين قد يواكبون الإبداع الجديد، وتتجلى بالمحاولات المستمرة للفّ كل إبداع جديد في شرنقة معايير نقدية عفنة
خصوصاً أن الكثير من المبدعين مازالوا مؤطرين بإيديولوجيات سياسية واجتماعية وأخلاقية، يحاكمون على أساسها الآخر/ المبدع. والله وحده يعرف ما الذي من الممكن أن ينتج عن تلك المحاكمات (الإبداعية) |
الروايات سبب لإباحة الدم
تم طبع رواية الروائي السوري ممدوح عزام "قصر المطر"، في وزارة الثقافة عام 1998. ثم قدّمت من جديد في العام 2002، للحصول على موافقة لإعادة طبعها في دار خاصة، باعتبار أن طباعة أي كتاب في سورية تستلزم الحصول على إذن من دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، أو اتحاد الكتّاب العرب، أو وزارة الثقافة، أو القيادة القطرية لحزب البعث، التي تتولى الرقابة على الكتب والمخطوطات في مجال الدراسات السياسية أو الدينية أو التاريخية.
تم رفض الرواية من قبل اتحاد الكتاب العرب، ثم مُثّل بالنسخة المقدمة إلى الرقابة، وهي للسخرية واحدة من النسخ المطبوعة قبل أربع سنوات في وزارة الثقافة. واشترط الرقيب شطب 23 مقطعا من النص، إضافة إلى تغيير جذري للخاتمة، كي تتم الموافقة على إعادة طبعها.
وكانت "قصر المطر" قد تعرضت وكاتبها لهجوم شرس بعد طباعتها الأولى. ورفعت مشيخة العقل الدرزية كتاباً إلى رئيس الوزراء السوري، تطالب فيه بإلغاء ترخيص الرواية، وسحبها من التداول، وسحب نسخها. فقد اعتبرت الطائفة أن الرواية تمسّ كرامتها، وتسيء إلى رموزها الدينية ورجالاتها التاريخيين، وبشكل خاص سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى 1925. ويأتي الاعتراض من كون الرواية تكشف للمرة الأولى بيئة المجتمع الدرزي، وتقدمه من الداخل كأي مجتمع آخر في العالم من خلال السلبي والإيجابي فيه. كما تؤرخ الرواية لتفاصيل من البيئة يعتبرها البعض أسراراً دينية مقدسة لا يجوز إشهارها.
ثم طالب مشايخ العقل بإعطائهم الحقوق لإقامة دعوى قضائية ضد المؤلف. وذلك لردع كل من تسول له نفسه بثّ التفرقة وزرع الفساد والفتن.
وطيلة سنوات تعرض الروائي عزام إلى تهديدات تطال حياته وأمنه، حورب، ونبذ من قبل الطائفة الدرزية، التي تقدر بحوالي 500 ألف نسمة، وهو يعيش في وسطهم في قرية من محافظة السويداء في الجنوب السوري.
الأمر أدى أيضاً إلى بلبلة في أوساط المثقفين السوريين وقتذاك، لأن هذه الحالة شكّلت سابقة لم يألفها الوسط الثقافي في سورية. فباستثناء فيلم "اللجاة"، المأخوذ عن رواية "معراج الموت" للكاتب نفسه، لم يتعرض عمل أدبي أو فني لردود فعل دينية أو شعبية مشابهة.
سير ضاحكة
طبعت دار الحصاد في دمشق سنة 1993 سيرة بوعلي ياسين الضاحكة، وكانت بعنوان "عين الزهور- سيرة ضاحكة". وبعد موافقة الرقابة الرسمية، المتمثلة باتحاد الكتاب، على الطباعة، وزعت نسخ من الكتاب كما جرت العادة. ثم راحت بعض رموز الطائفة العلوية تحتجّ على الكتاب، لما فيه من حديث عن شيوخ الطائفة وخصوصيتها، وذلك من خلال حديث الكاتب عن طفولته ومجتمعه المحيط، ومن خلال تأريخه لتفاصيل جوانية في عيش مجموعة من البشر في اللاذقية. ليأتي يوم تداهم فيه جماعة تابعة لأحد رجال الدولة المتنفذين، والآخذين على عاتقهم حماية شرف الطائفة، إلى مقر الدار، وتصادر النسخ الباقية، ثم يتم تهديد الكاتب والناشر بإلحاق الأذى بهما إن لم يسحبا النسخ الموزعة في الأسواق، ويوقفا بالتالي توزيع الباقي من النسخ. وهذا ما تم فعلاً، خاصة بعد أن تعرّض الكاتب في مدينته اللاذقية إلى محاولات للقتل، وإلى تهديدات طالت حياته وحياة أسرته. وإلى اليوم لم يتم طبع الكتاب من جديد.
أذكر حادثة مشابهة حصلت أول العام 2006. حين نشرت دار بترا (بالتعاون مع رابطة العقلانيين العرب) كتاب الإيرانية شاهدورت جافان "فلينزع الحجاب". كان الكتاب قد حاز على موافقة وزارة الإعلام السورية أيضاً، ووزعت منه 50 نسخة مجانية في مؤتمر المرأة والتقاليد الذي نظمته دار إيتانا. بعد ذلك أصدرت رئاسة مجلس الوزراء تعميماً رسمياً مستغرباً بعدم التعامل مع داري بترا وإينانا وأصحابهما. والأمر حصل تحت ضغط الرقابة الدينية ورجال الدين، الذين نكأ الكتاب دواخلهم، فأثاروا الضجة المعروفة حول الكتاب، وبالتالي طُلب تحجيم توزيعه في الأسواق بالرغم من أن الموافقة عليه لم تسحب..
أما جمعية "المباردة الاجتماعية"، وهي جمعية نسائية أهلية، فقد أوقف ترخيصها، وتم إهدار دم رئيستها في الجوامع، إثر حملة الجمعية الواسعة لتغيير قانون الأحوال الشخصية ببنوده الخاصة بالمرأة. واعتبر رجال الدين أن تلك المطالبات تمسّ قوانين الشريعة الإسلامية، ومحاولة تغييرها مسّ بقدسية الدين. رغم ذلك استطاعت المبادرة أن تعدل قانون الحضانة، وكانت تعمل على إعطاء الأم جنسيتها لأبنائها حين كفوا يدها عن الفعل.
رقابة اجتماعية/ دينية كهذه تبدو لي أحياناً أخطر من الرقابة الرسمية. وهذا لا يعني أبداً تبسيط الأخيرة، لكنهما تجتمعان كبلطة مشهرة ومسلّطة على رقبة كل كاتب أو مبدع، إن هو كتب أو رسم أو أخرج أو قام بأي عمل همّه بث الجمال حولنا، أو نبش المستور، أو زيادة نصيبنا القليل من الحرية.
الأمر ذاته حصل مع الروائي السوري حيدر حيدر، لكن في مصر. حين قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية بإعادة طبع روايته الشهيرة "وليمة لأعشاب البحر"، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1984، في إحدى سلاسلها الدورية (آفاق للكتابة العربية) عام 1999. حينها قامت الحرب ضد حيدر حيدر وروايته، يقودها حزب العمل الإسلامي، من خلال جريدته الشعب، ويسانده الأزهر الذي سيّر المظاهرات الغاضبة ضده في الشوارع والجوامع، الأمر الذي أدى إلى منع تداول الرواية، عبر فتوى دينية أصدرها الأزهر، وصودرت النسخ من الأسواق المصرية. كل ذلك حدث على الرغم من أن "وليمة لأعشاب البحر" ما فتئت، وعلى مدار سنوات طويلة، تزهو في بقعة الضوء، مثيرة حولها الضجة والاختلاف، والأهم أنها استطاعت أخذ مكانها المناسب في طليعة الروايات العربية في تلك الفترة.
اتحاد الكتاب، تعميقا للرقابة
المؤسسات الثقافية السورية، حالها كحال بقية المؤسسات الحكومية، محكومة، في ظل سيطرة الهاجس الأمني، بالأحادية والتبعية للسلطة. ومحكومة أيضاً بالبيروقراطية والديكتاتورية التي تعمّ المجتمع السوري. عملت تلك المؤسسات، خلال العقود الماضية، على خلق جملة من الكوارث في الحياة الثقافية، جراء فرض سيطرتها الرقابية على الثقافة.
لكن أقل ما قد ينتظره الكاتب من اتحاده أن يسانده حين يحتاج إليه فعلاً، بما إنه اتحاد الكتاب الذي يدّعي حمايتهم والحفاظ على حقوقهم. لكن الأمر كان على العكس في كثير من الأوقات. فقد تعرّض الروائي نبيل سليمان للضرب على أيدي مجهولين في مدينته اللاذقية في بداية سنة 2001، وقد حدث الأمر أمام بيته، في ساعة متأخرة من الليل، نقل على إثرها إلى المستشفى للعلاج. وفي نشرة أخبار الظهيرة في إذاعة مونتي كارلو، يقول علي عقلة عرسان في اليوم التالي، وهو رئيس اتحاد الكتاب منذ سنة 1978، بما معناه أن الحادث له طابع جرمي شخصي، وقد وقعت عدة حوادث في المدينة خلال الآونة الأخيرة (علماً أن تلك الحادثة كانت سبّاقة)، وأن نبيل سليمان يعيش في حي شعبي غير آمن | (علماً بأنه يعيش في حي من أرقى أحياء اللاذقية)، وأن ليس للحادث أي بعد أمني أو سياسي (علماً أن التحقيق لم يكن قد بدأ بعد حين علّق عرسان بحديثه الآنف).
كما أقدم اتحاد الكتاب على فصل الشاعر أدونيس من دون مناقشة أو محاكمة، وذلك إثر حضوره مؤتمر غرناطة واتهام السلطة له، ممثلةً بالاتحاد، بالتطبيع. على إثر ذلك قدّم كل من حنا مينة وسعد الله ونوس الاستقالة من عضوية الاتحاد احتجاجاً على الفصل، وعلى تمثيل الاتحاد لموقف السلطة، ليُنشر بعد مدة خبر، في إحدى صحف الاتحاد، مفاده أنهما فصلا من عضوية الاتحاد لأنهما مع التطبيع |
كذلك الأمر بالنسبة لهاني الراهب الذي ترجم رواية "غبار" ليائيل دايان، ابنة موشي دايان، وقد أراد بهذه الترجمة أن يدلّنا باعتقادي على الصورة التي يرسمها أدباء إسرائيل عن العربي. كان ذلك في بداية السبعينات. واتهم هاني الراهب بمحاولة التطبيع معإسرائيل، وبناء على ذلك قام اتحاد الكتّاب العرب بطرده من صفوفه. لكن الراهب ظلمصراً على رأيه، وبأن علينا أن نعرف كل شيء عن عدونا حتى في الثقافة.
أما علي عبد الله سعيد فقد أعيدت مخطوطة روايته: "الخراب"، وقد منعت من الطباعة، وامتلأت هوامشها بشتائم وسباب، يطال الكاتب وأخلاقه وأقرباءه ونساء عائلته. وكأن الرقيب لم يشف غليله بمنعها فحسب، بل احتاج إلى كل ذاك القدر من التطاول والإهانات بحق الكاتب.. وعلى هامش نصه. وبعد فوز رواية علي عبد الله سعيد "اختبار الحواس" بجائزة رياض الريس البيروتية للإبداع، راح الإعلام الرسمي يشهّر بالكاتب ويحطّ من موهبته، خصوصاً أن "اختبار الحواس" كانت قد منعت في سورية، لتطبع تلك الرواية المميزة في بيروت.
حروب أهل الكار
مع الزمن راحت الصفحات الثقافية في المطبوعات الرسمية الدورية، من جرائد ومجلات سورية، تتحول إلى حلبة لتصفية النزاعات الشخصية، وربما لإعادة الاعتبار الشخصية لمدير أو محرر تلك الصفحات. ولطالما شنت الحروب منها وعليها، وهي بمجملها حروب صغيرة أبعد ما تكون عن الثقافة الحقة.
وهنا تعرضت الكثيرات من الكاتبات لموجات من التشهير والتعهير والسباب بسبب كتاباتهن. ولا أظن أن أحداً ينسى ما حصل قبلاً مع غادة السمان، في ستينات وسبعينات القرن الفائت. الأمر أعيد منذ فترة فيما يخص رواية سلوى النعيمي "برهان العسل" الصادرة مؤخراً، واتهمت بشتى الاتهامات حتى وصلت إلى أخلاقها الشخصية… والأمر تكثّف مؤخراً في ملف أعده ملحق صحيفة "الثورة" الثقافي عن الأدب الإيروتيكي السوري، بعنوان مستفز هو: أدب غرف النوم. وكنت قد نشرت قبلاً رداً على الملف، لذلك لن أعيد الكلام، لكن بالمختصر كانت أكثر من إحدى عشر شهادة من اشهر الأسماء السورية راحت تكيل الشتائم لكتابة الجنس باعتبارها تبتغي الشهرة والمال وإثارة الغرائز الحقيرة وما إلى ذلك. كان الأمر كما قلت يقضي على الأدب بالإعدام وعلى حريته بالصلب وعلى أيدي مبدعين وليس رقباء |
السجن كتتويج حقيقي للرقابة
خلال السنوات الماضية تمّ تشويه السمعة الشخصية للكثير من الكتاب والناشطين في سورية. وباتت الاتهامات، التي تطال الوطنية الأخلاق والشرف، من أسهل ما يكون. لم تعد حرب الرقابة تقتصر على منع النص، أو تهديد كاتبه، أو توجيه الشتائم والإهانات شفاهاً أو بقلم الرقيب، بل تعدتها إلى تشويه وجود الكاتب في مجتمعه، وإلى تنفير الناس منه بشكل شخصي. وراحت المماهاة بين الرأي/ النص وبين الشخص الكاتب تطال جميع الكتاب والمبدعين. والرقابة السياسية وصلت بحربها إلى السجن… على حدث مع محمد غانم، وحبيب صالح، ومحمد محفوض، ومع ميشيل كيلو بسبب مقالاته أيضاً، رغم أن محاكمته كانت ظاهرياً لأسباب أخرى، ومع أنور البني وغيرهم.
صار ثمن المقال قد يصل إلى سنوات في السجن، فلم يعد الأمر في نطاق المزاح أبداً | كم من الممكن أن يورد المرء أمثلة عن تاريخ الرقابة السورية الغني والمؤثر وكم من الممكن أن يتحدث عن ضحاياها، وعن أنواعها المتعددة والمبتكرة حقيقة. أعتقد أن عشرات المقالات لن تكفي ذلك، إنها محاولة للتذكير، على الرغم من أن أحداً من المبدعين السوريين لم ينس، محاولة للتذكير فحسب…
المراجع
alawan.org
التصانيف
أحداث أحداث جارية التاريخ سوريا
|