د. أشرف صالح محمد سيد - مصر

العرقسوس "شفا وخمير"، بهذا النداء الجهوري ونغمات طاساته الرنانة، وملبسه المميز، يجوب بائع العرقسوس المدينة، يضفي بطقوسه الخاصة لونا على الشوارع والأزقة، ويصبح بطلا في تلك اللوحة الشعبية الفريدة.

منذ نشأة الجنس البشري والإنسان يطوع يده وقواه العضلية لصناعة أشيائه وأغراضه وليشبع حاجاته الأساسية. ويُعَدّ التاريخ الحرفي والمهني في مصر وبلا شك مركز إشعاع حضاري وثقافي وفني، باعتبار الحرف والمهن مدرسة الشعب التاريخية، وصاحبة الدور الأكبر في تحقيق النفعية للفرد، وتشكيل الجوانب الاقتصادية الفعالة للمجتمع المحلي والقومي على مر التاريخ.

وقد اختلفت المهن التقليدية من بيئة إلى أخرى وبين مدينة ومدينة، متى ظهرت الحاجة إليها وتوفرت العوامل والإمكانيات والموارد الداعمة لها. وصاحب هذه المهن والحرف نداءات وأغان وأمثال وعادات وسلوكيات وأزياء وشارات يتعرف بها أهل كل حرفة ومهنة.

نبات العرقسوس

"العرقسوس" كلمة عربية الأصل تعني امتداد جذور النبات في الأرض، أو الخشب الحلو، وهي مكونة من مقطعين (عرق) أي جذر، و(سوس) تعني متأصل، أو أصل السوس وهو نبات معمر من الفصيلة البقولية، كما أنه نبات ذو قيمة علاجية عالية.

وقد تم العثور على جذور العرقسوس في قبر الملك توت عنخ آمون، وكان يقتصر استخدامه وشرابه على الملوك الفراعنة، وكان الأطباء المصريون القدماء يخلطونه بالأدوية المرة لإخفاء طعم مرارتها، وكانوا يعالجون به أمراض الكبد والأمعاء، والسعال الجاف والربو والعطش الشديد، بما يدعم وجهة النظر المؤكدة لوجود مهنة بائع العرقسوس في مصر منذ القدم.

وقد عرف قدماء العرب هذا النبات وورد وصفه في كثير من المراجع القديمة، وأن منقوع العرقسوس المخمر يفيد في حالات القيء وتهيج المعدة والأمعاء وحرقة البول. وقد اعتبر العرقسوس شرابا ملكيا حتى جاء الفاطميون مصر، فأقبل عليه الناس ليصير مشروب العامة خاصة في شهر رمضان، فيتناوله المسلمون بعد أذان المغرب لأهميته في القضاء على الإحساس بالعطش.

بائع العرقسوس


بائع العرقسوس هو أحد الباعة المتجولين، يقوم ببيع مشروب مثلج من العرقسوس كواحد من أهم المشروبات الشعبية. وعمل بهذه الحرفة كثيرون. وقد كانت الحكومة المصرية في الماضي تمنح أصحاب هذه الحرف رخصا أو تراخيص تمكنهم من ممارسة هذه الحرف أو المهن لفتح محل شربتلي أو عرقسوس في أيام الأعياد والمولد النبوي، وينتهي الترخيص بانتهاء تلك الفترة الزمنية المحددة له. وكانت هناك تخصصات دقيقة لبائع المشروبات مثل العرقسوس؛ والشربات؛ والليمونادة.

زي بائع العرقسوس

ملابس بائع العرقسوس التراثية أفضل إعلان يقدمه البائع لإظهار عراقة تاريخ الشراب الذي يبيعه ويتكون من: (أ) لباس سفلي يسمى السروال يغطي الرجل يبدأ من السرة، وإما أن يكون طويلا يصل إلى القدمين أو قصيرا يدرك الركبتين. (ب) السروال: وهو لبائع العرقسوس طويل يصل إلى القدمين، وواسع فضفاض لسهولة الحركة، وذو حجر منخفض (ساقط) وواسع يضيق عند القدمين. ويشد حول الوسط بتكة أو أستك. ويعلوه (قميص) الجزء العلوي من الجسم، مفتوح من الأمام ويقفل بأزرار، وله نصف ياقة وأكمام طويلة.

كما يرتدى بائع العرقسوس (الصديري)، وهو يعتبر قطعة ثانوية، إما أن تكون سوداء من الخلف وبأقلام طولية أو عرضية بيضاء ومُلونة من الأمام، أو ذات لون واحدة ومطرزة بالخيوط المعدنية الذهبية في شكل زخارف رائعة والتي قد تكرر على السروال.

وبالحديث عن مكملات زي تلك المهنة نجدها تتكون من: (أ) غطاء الرأس: قد يكون طربوشا أو طاقية دلالة على الاعتناء بنفسه. (ب) حزام: وهو عبارة عن شريط جلدي عريض لحمل إبريق العرقسوس الكبير ويطلق عليه أسم "حميلة". (ج) حزام صف: وهو شريط من الجلد يحيط بالخصر، يحتوي على درج معدني لوضع النقود. (د) المريلة: وهي قطعة من القماش مستطيلة الشكل يقوم البائع بتثبيتها عند والوسط بواسطة الحزام في شكل درابية.

أدوات المهنة

يحمل بائع العرقسوس إبريقا ضخما من الزجاج أو النحاس، فرديا أو مزدوجا، مصنوعا خصيصا للمحافظة على برودة العرقسوس طوال اليوم، ويحمله بواسطة حزام جلدي عريض والذي يُحكم ربط الإبريق حول الوسط بما يوزع الثقل على الجسم.

ومشدود على الخصر حزام يتدلى منه إناء صغير للأكواب، ووسادة صغيرة، محاكة من جميع الجوانب بداخلها مواد حشو كالقطن أو الفيبر توضع بداخل الحزام الذي يحيط بالخصر لتساعد البائع في حمل الإبريق الكبير، وتعزل عنه برودة العرقسوس.

ويمسك بيده اليمنى الصاجات (الطاسات) والتي هي عبارة عن دائرة من النحاس، تستخدم مزدوجة وتثبت بواسطة أربطة تمر من خلالها وتدخل في أصابع اليد، بشكل يسهل استخدامها فتتراقص بين يديه محدثة نغمات رائعة يعرفها الكبير وتجذب الصغير.

وتحمل يده اليسرى إبريقا صغيرا مملوءا بالماء لغسل الأكواب، فنراه يتحرك بين أدواته كراقص محترف رشيق في حركاته.

الزمن المكاني

كان تحضير العرقسوس يستغرق وقتا طويلا، حيث ينقع النبات في إناء زجاجي ليلة كاملة ومن ثَمَّ تصفيته عن طريق قطعة قماش نظيفة تسمى "شاش"، بعدها تبدأ عمليات التحلية والتعبئة في الإبريق الزجاجي أو النحاسي، أما الآن فقد أصبح التحضير أكثر سهولة ولا يستلزم نقع ولا إعداد بعد أن تدخلت الآلات لطحن العرقسوس وبيعه على هيئة مسحوق سهل التحضير، وبالتالي بإمكان الأسرة في رمضان أن تعده بنفس السهولة، وتضيف الماء الساخن أو البارد إليه وتضعه في إناء زجاجي لتقديمه ساعة الإفطار.

كما أن بائع العرقسوس بزيه التراثي لم يعد موجودا في الشوارع والأماكن الشعبية إلا بشكل نادر، وأصبح بمثابة شخصية فلكلورية تستعين به أغلب الفنادق السياحية والخيام الرمضانية، ويلقى قبولا من روادها لما له من طابع مميز، وهو يوزع على روادها شرابه المميز أثناء تناولهم الإفطار.

ولكن يبقى بائع العرقسوس جزءا من الحياة الشعبية لن تستطيع أن تفصله عن مساره في تلك اللوحة وهو يمشي في مهرجان تسبقه نغمات طاساته الذهبية، يحمل إناء العرقسوس بحجمه وامتلائه، يجعل له صدره مهادا ووسادا، يباعد بين الكوب في يده وبين "البزبوز" وهو يصب لتظهر الرغوة المميزة للعرقسوس.


المراجع

oudnad.net

التصانيف

فنون  أدب  مجتمع   الآداب   قصة