في حزيران انقلبت الدنيا ..
استوطنت اليهود مركز المخيم, مضى الحاكم العربي ليأتي الحاكم العبري, الناس كانوا قد دفنوا الجثث المنتفخة . وأخذوا يراقبون دوريات اليهود التي تعبر محمولة, و تطلق صليات متصلة . مكبر الصوت أرسل تهديدات يومية, و التجوال بعد ساعات غياب الشمس أمسى ممنوعا .
الدنيا في المخيم توقفت
نول الحاج صالح لم يعمل لانقطاع الغزل, المدرسة هُجرت, المعلم فاروق هرب إلى شرق الأردن, ومن المذياع لم يقترب أحد, أغصان شجرة الكينيا تصلبت, وأوراقها لم تعد تهتز . وظلّت دكان المنجد خليل مقفلا، يعيث البق فيها
في يوم زعقوا على الذكور, ليغيروا لهم بطاقات الهوية, نسر البطاقات ضاع، و جاءت نجمة داوود, المجندات تغنجن يومها أمامهم, استعرضن اللحم المكشوف, لتمتد إليه أيادي الجند, الحاج صالح ودّع بطاقته, وسلمها لمجندةٍ خلف الشباك,

أغاظته الغمازتان بخديها, و صورةٌ استيقظت فيه هزت بدنه، كانت بنات إسرائيل قد ركبن سبعة حمير ضيعها القصف, كان ذلك آخر منظر تزود به عيناهُ من مجدل عسقلان, انقلبن على الحمير و دققن طبولا, كنّ يلطمن مؤخرات الحمير و ينادين, ركب حمير و نسوة منقلبات، وعلى أنغام الطبل هزجن

هزجن لحظة وداع مجدل عسقلان :
ــ إحنا بنات الهاجانا سبعة ملوك ما بتلقانا صيفنا في فلسطين و شرق الأردن مشتانا .
دفعه رجل يجاوره :
ــ يا حاج, اسمك يا حاج .
عاد بنظره إلى الشباك, وعادت تصدمه الغمازتان .
  • -bbbbbb-
في فراشه تقلب الولد العفريت ممسوسا
في ليلة قادمة من بطن الغول، تيبس حلقه وهو يستعرض دنياه, الوعد القادم من الإذاعات, المهدي المنتظر المقتول, حكايات ( نص نصيص) وأيضا ( أبي رجل مسلوخة)، مشوه يركض على ساق دامية, حكايات نومته دوما مرعوبا, وجاءته كذلك أرواح العفاريت, وحكاية ( عوج بن نعنق) الخارج من الشام؛ ليدوس كعبة الحجاز, قدماه على الأرض, و رأسه غارق في السحاب, خطوته تأكل البلاد, مارد يهز الكون, إذا صاح تختنق بصيحته السباع البعيدة, و إن تجشأ تنصفق الأرجاء
وقال الأب: إن مشى عوج بن نعنق في البحر التقط منه الحيتان, ليشويها في عين الشمس ثم يبتلعها
وقال الأب: كان ينوي ردم الكعبة على حجيجها, فداس بإصبعه بئر مكة, فغاص البئر, وهرولت الحجاج من بين أصابعه على الجبال، فرفع جبلا على كفيه, و خطا, فانسدت عندها سماء مكة بطيور الله
وقال :
هاجمت الطيور الجبل فوق رأسه بمناقير حديد, فحفرت حفرة فيه, بعدها الطيور هاجت على أصابع كفي المارد, فارتجفت أصابعه, فسقط الجبل أسورة تخنق الرقبة, و لما انهار عوج بن نغنق و تمدد, أضحى رأسه على الحجاز, و قدماه في فلسطين, و صار فرجةً للحجيج, يستمعون لأنينه أولهم في الحجاز، وآخرهم في فلسطين
وتذكر الولد العفريت المنجد خليل التلمس الحاضر الغائب, هل فعلها و لم يقتل ؟ أطريد هو الآن بلا بطاقة تلطخها نجمة داوود ؟
البطاقة التي قذفها أبوه لأمه كالأفعى, وقال :
ــ خذي, ينوون أن يُعمروا
تلظى الولد العفريت في الفراش, رأى السقف يهوي, الجدران اقتربت, وثب إلى صحن الدار, فقاربت أذنيه حركة, وهمس جاءه, مشى حتى صدمه الباب, فتيقن من مخارج اللهجة و التقط كلمات, عينه عثرت على ثقب الباب, في الخارج اشتعل عود ثقاب, فرأى بزات جيشهم الهارب تتحرك, سمع قعقعة سلاح, فشهق، ثم قبض فمه, عرب ببزات ! عرب بسلاح ! أيقظة أم الدنيا أطلقت كابوسا, ابتعدوا؛ فتسمر, ظل جامدا, شاخصا في الظلمة, حتى هزه الانفجار . انصفقت الدنيا و انفردت, بعدها أرعدت بصليات رصاص, و جاء الأب يزعق :
ــ الرصاص نوعان, نوعان
ثم أردف :
ــ هذا على الطريق العام
ورقص الولد العفريت, , فهم المرحلة، قال:
- من لم يأخذ البطاقة ارتدى البزة و حمل السلاح
و هتف داخله هاتف : يا منجد خليل, أين أنت من كل هذا؟
جنت اليهود, قذفوا السماء بالقناديل, والغيوم لهثت, مكبر الصوت زمجر آمرا:
ــ الرجال إلى المدرسة.
احتشدوا على التراب, تراصوا أجسادا مطأطئة, الولد العفريت و حربي جلسا بين الرجال, كبر الأمر؛ فكبرا، اندسا في الآتون ليكتشفاه, الحاج صالح ثنى ركبتين كجذعي جميز، و ابتسم, جند إسرائيل لم يهنئوا بالنصر, أطلقوا فوق الرؤوس كالمجانين, فتمتم الحاج صالح :
ــ أنتم أصلا لم تقاتلوا ذات يوم
لكزه ولده, لكن الأب أصر :
ــ دوما تستولون على الأرض من غير قتال
و جاء رجل في الكيس, ترجل من عربة جيب، و مشى, دخل الصفوف, فسُحبت رجال, أعصبت عيون, و أوثقت معاصم, صار المسحوبون عميا يتعثرون, انتظر الحاج صالح الكيس, هو لم يكن جنديا, و لم يشارك في قتال, لكن الكيس تمهل ثم توقف, و على غير توقع سحبوه, ثم أعموه و أوثقوه, صدمه غباء الكيس ثم أراحه, إنهم يتخبطون, من فجر الطريق العام لن يكون الآن في العربات .

داسه حذاء صائح :
ــ مخرب, ها مخرب .
و جاءته لكمة, خلعت فكه, هوى على قاع العربة, فصدمه الحديد, تكاثرت الأحذية على العنق, دقوا الظهر, رآهم يتفجرون غيظا, الأقدام لا تهم, و لا القبضات, صراخ في الدنيا, مخرب مخرب, ماذا يعنون ؟ سائل ساخن ينهمر, سائل لزج في الوجه, الأقدام تدق, ويشتدُ الصراخ يشتد:
- مخرب يا كيلب ( كلب )
توقفوا في المركز, و أنزلوه, أوقفوه ليلاصق حائطا, وأطبق صمت, جاءته أنفاس المصلوبين, و يطول الوقت, أو يتوقف, جاءه آذان اخترق الحظر, أذانُ المغرب هذا أم الفجر ؟ ماذا فعل ولدك ؟ كيف استقبلت أمه النبأ ؟ اعتقلوه يا أمي, هل اكتشفوا ابتسامة قلبك فاعتقلوك ؟ اليهود لم يهنئوا بالنصر, عرباتهم تطايرت, فضجوا في الرعب, خلعوا البرانيط و غطسوا في الخوذ, داروا في حلقات لاهثة, كل جندي رسم دائرة, ليدوخ فيها, و يشتد الآن حولك الصمت، فقط أنفاس, الوقت يطول أو يتوقف يقطعه آذان, يتبعه آذان، بوركت يا من تنفلت في الحظر الآن لتؤذن, يا رجل لا ترتبط بمواعيد, لا ترقب شمسا و لا ساعة, الله أكبر على الصمت الثقيل, على أسورة الفولاذ, تورم المعصمين, على حشر الأعين المحملقة في دامس الخيش, تنتظر اللاشيء .
و جاءت يد, امتدت إلى العنق, جرته على استقامة، ثم التوت, مشى، أو تعثر, ترقب الآتي و تهيأ, انفتح باب ثم انصفق, ارتفع الكيس, أغمض العينين و فتحهما ليحركهما, شاهد جدارنا و سقفا أملس, يهوديا شاكسه بإيماءات, بعينين تلتويان, و ذراع تتأرجح :
ــ ها سيد صالح ؟
لم يفهم ما تعنيه ( الهاء ), لكن اليهودي استرسل :
ــ ها ستحكي ؟
لم يتكلم, فأكمل اليهودي مفسرا :
ــ ستحكي من كان معك ؟
لم يتوقع السؤال الغبي . ظل صامتا .
صاح اليهودي, فتكاثروا, هجموا أربعة, قفزوا فوقه، و دكوه, غابت أنفاسه, فحرثوه .
ــ ما علاقتك بخليل التلمس ؟
اهتز, يا منجد خليل, أنت حي, حي ؟
ــ يا مخرب, يا كيلب



- رواية, الجزء السابع, عمر حمش

المراجع

موسوعة الصداقة الثقافية

التصانيف

تصنيف :فنون   أدب  أدب عربي